01‏/10‏/2017

ما وهنا نحن أحفاد المثنى

يُحجم القلم حين يكتب عن حلب، فحبره لا يكاد يطاوعه في الكلام عن الدماء الطاهرة الزكية التي سالت على ثرى حلب ذودًا عنها، وتمسُّكًا بها، فكيف يصف المفضول الفاضل؟ وكيف يشرئب الثرى بعنقه ليطال الثريا!؟

بل حتى حين قررت أكتب عن حلب ظللت أيامًا متقلبًا على جمر الحيرة....
أأنفث بركان المشاعر في صدري!؟، أم أكظمه علّه يخمد ويبرد الفؤاد....

لكن قررتُ الكتابة وبالله الاستعانة...

سأكتب بحذر الماشي في حقول الألغام، متجنبًا قدر استطاعتي ألغام الإرجاف، وألغام التخوين، وألغام جلد الذات، وألغام اليأس، وسأحاول ألا أسقط بفخاخ الأمل الزائف وغوغائية العواطف التي هي كالمخدرات تُذهب العقلَ لينسى الجسدُ بعضًا من ألمه، حينًا من وقته ثم يستيقظ على ألم أشد وواقع أوجع.

في حلب للبطولة والصمود عبير وألوان وأشكال كما الورد في رياضه...

المقاتلون من جميع الفصائل حُمَاةُ الأرض صُوّان العرض....

أصحاب الأجنحة والقلوب والخوذ البيضاء، أبطال الدفاع المدني....

الجنود المجهولون ممن حوّلوا من ألم الواقع ومرارته، بذلًا وعطاء، أبطال مجلس المدينة ومختلف الهيئات المدنية والإغاثية والخدمية....

الطبيون والمسعفون الذين تشبهوا بالملائكة وكانوا نجاةً للمستضعفين وبلسمًا للمتعبين....

والأكثر بطولة وفداء من صمد وصبر وصابر من المدنيين الأبطال، الذين عاشوا معنا لحظات النصر، وواسونا في لحظات الانكسار، ورفضوا جنة بشار التي هي كجنة المسيح الدجال ظاهرها النعيم وباطنها الجحيم، ورفضوا ذلّ حياة اللجوء لأوروبا وظلّوا متمسكين بأرضهم ومنازلهم المتواضعة في إصرار ركعت عند قدميه أسلحة المجرمين.

إذًا حلب فصل جديد من فصول قصة الثورة السورية التي لما تنتهِ بعدُ، فصل مليء بالدروس والعِبر المستفادة، كضرورة استبدال قيادات الفصائل المهترئة كبقايا الضمير العالمي، وضرورة التوحد والاعتصام بحبل الله لا بحبل الدعم المشروط، والاتكال على أنفسنا أولًا لا على العالم.

تعلمنا الكثير الكثير، كأهمية الاستراتيجية العسكرية التي لا تعني فقط إعدادَ خطة عسكرية بل هي أشمل من ذلك بكثير، تعلمنا أهمية إنشاء التحصينات العسكرية، كحفر الأنفاق والخنادق والتدشيم ورفع السواتر.

تعلمنا أن سنن الله لا تجامل أحدًا حتى المؤمنين، فحين تنازعنا فشلنا وذهبت ريحنا.

تعلمنا أننا بدل أن نرد الصائل الذي هو أوجب الواجبات بعد الإيمان، فرقنا ديننا وكنا شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون، وبدل أن نقيم الإسلام بخدمة هذا الشعب الأبيّ الكريم، أقمناه بتجسيم أهوائنا بحدود نقيمها على الضعفاء، ونعفي أكابرَ المجرمين منها، وبدل أن نشيد صرح دولة الإسلام برفاهية المستضعفين، أشدنا صروحًا للشياطين وهي تسوم المستضعفين سوء العذاب باسم الإسلام وهو منها براء.

تعلمنا أن الغلاة والمتنطعين والمزاودين، كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، وكمثل الحمار الذي يحمل أسفارًا، فلا أعادوا لنا خلافة، ولا حفظوا لنا أرضًا ولا صانوا لنا عِرْضًا، بل فتكت سكاكينهم فينا قبل سكاكين النصيرية، وقصفتنا فتاويهم لتمزقنا كل مُمزَّق، قبل أن تقصفنا روسيا بارتجاجيها وعنقوديها وفراغيها.

تعلمنا ألا نجعل لشرع الله الواحد محاكم شتى تحكم بأهواء طواغيت الفصائل، وأن المقاتل عمله القتال لا ترؤُّس الإدارات الخدمية والمدنية، وأن الإعلام وُجِدَ ليكون صوتنا الذي يحدث الناس عن آلامنا وآمالنا وبطولاتنا، لا بوقًا للأعادي ينشر الإرجاف والكذب والطعن بالمجاهدين، ولا منبرًا لإفراغ تخبُّطنا العاطفي وكبتنا النفسي وحقدنا الشخصي على شكل مزاودات وإشاعات نبثها زورًا من صفحاتنا التواصلية الاجتماعية لتبلغ الآفاق وتكبنا مفلسين في النار على وجوهنا.

تعلمنا أن القوم إذا سادهم أرذلهم، وتكلّم سفيههم، وتصدَّر رويبضتهم فإن مصيرهم الباصات الخضر لا محالة.....

تعلمنا أن إخوتنا الحقيقيين وأصدقاءنا الصادقين ليسوا من تسكعنا معهم في الجامعات ولعبنا معهم في الحواري، ثم تركونا "بحثًا عن مستقبلهم" في أوروبا، أو "إكمالًا لدراستهم في جامعات النظام" ، بل هم من اختلطت دماؤنا بدمائهم في صدّ تقدُّم النظام وشبيحته، وتقاسمنا معهم خبز الحصار، ونشوة الانتصار، ودموع الانكسار....

تعلمنا أن حمل السلاح دون تربية وعقيدة سيحولنا إما إلى "زعران" وقطّاع طرق، أو إلى دواعش، وفي الحالتين نأكل حقوق المظلومين بالباطل، ونشرب دماءهم....

والأهم على الإطلاق مما تعلمناه في درس حلب، أن من يتقِ اللهَ ويصبر، ويأخذ بالأسباب الدنيوية للنصر، ويراعِ سنن الله الكونية، ويعد ما استطاع لجهاد عدوه فهو المنتصر لا محالة، وأن الزمن يدور والحسنات يُذهبن السيئات وأبواب النصر والفرج مفتوحة على مصارعيها وتنتظر الوالجين منها المسرعين لها....

فيا معشر الثوار وأولهم فرسان حلب، لا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين...

والإيمان يقتضي إصلاحَ الأخطاء ومراجعة النفس وتقويم الأفكار، ونفي كل خبث من هذه الثورة المباركة سواء كان فكرًا أو قيادة أو تكتيكًا.

ووالله -ثم والله- إن يمسسكم قرح فما أكثر ما مسَّ بشار وشبيحته قرح مثله وأشد، ولطالما دستم بنعالكم رؤوسهم، وطالما تحطمت على جلمود صبركم أحلام ملالي إيران، وزميرة الشيطان نصر اللات وحزبه، فما فات شيء بعد وما وَهَنّا نحن أحفاد المثنى، وحلبنا لا تموت وفيها باب لصبرنا من حديد، يدخل منه من قضى نحبه منا لباب الجنان، ويعبره من ينتظر لباب النصر والفرج .....

جاد الحق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق