13‏/04‏/2018

خيال سياسي


عالم السياسة أكثر عالم مجرياته صادمة للتوقعات، والدول القوية تمتلك أفرع استخباراتية مهمتها أن تتوقع اللا متوقع ثم تضع خططا للتعامل مع هذه الأحداث غير المتوقعة، حتى إن حصلت هذه الاحتمالات أو ما هو قريب منها تكون الدول قد جهزت نفسها مسبقا لتأتي الكارثة عليها بأقل الأضرار.

سؤال المليون

هل نحن كثورة أو كثوار جهزنا أنفسنا لهذا اللامتوقع أم كالعادة سنتعامل على مبدأ ردات الفعل العاطفية والتي تكون مدروسة ومعروفة مسبقا عند أعدائنا؟

يجول في خاطري سيناريو قد يكون لا واقعيا، أحب أن أشارككم به كنوع من التفكير بصوت عال، أو على الأقل كتدريب لمخيلتنا السياسية.

تصوروا معي لو حصلت فعلا الضربة الأمريكية، ووصل العالم لذروة من الاحتقان الذي ليس بعده إلا اشتباك الدول الكبرى بحرب عالمية ثالثة، ثم اتفقت الدول الكبرى ( أميركا وروسيا ) على حل مشترك بينهما يقوم على مبدأ إخراج الدول الإقليمية الفاعلة في الساحة السورية، لتأخذ مكانها الدول الكبرى، أي إخراج تركيا وإيران خارج سوريا، مع بقاء الدول الكبرى بشكل مباشر ودون أذرع وظيفية عبر تأسيس نظام حكم بإشراف الدولتين كالآتي:

تحييد بشار الأسد وعائلته عن المشهد باغتيال أو تنحية، مع صرف الضباط والقيادات في النظام السوري الموالية لإيران، واستبدال النظام الذي ظاهره علماني وباطنه نصيري طائفي، بنظام آخر ظاهره سني صوفي، وباطنه علماني ( كنظام قديروف في الشيشان ).

وفعلا يتم تقديم فاروق الشرع مثلا كرئيس جديد لسوريا، محاطا بمباركات مشايخ السنة الذين التزموا الحياد طوال الفترة السابقة، ثم يبدأ الشرع بتقديم الضباط السابقين في النظام البائد الموالين لروسيا ( خاصة من السنة ) ويجمعهم بالمرتدين عن معسكر الثورة من جماعة المصالحات، مع الفصائل الأمريكية كالموجودة في درعا وغيرها، وينشئ منهم جميعا نظاما سنيا علمانيا يوالي أميركا وروسيا معا، ويعمل بإشرافهما المباشر، ويحظى بدعم الدول العربية واعترافها ( السعودية، الأردن، مصر، الإمارات، البحرين، الكويت، الجزائر، قطر، السودان، المغرب، تونس، ..... ) وتكون مهمته تصفية أذرع إيران من بقايا نظام بشار الأسد ( أغلبهم من النصيرية )، وتصفية بقايا الثوار من المحسوبين على الجانب التركي ( سيعتبرون عصابات مارقة مناصرة لاحتلال أجنبي ).

لا شك وقتها أن إيران لن تسكت، وستحرك الطائفة النصيرية التي سترى نفسها الخاسر الأكبر فيما حصل، فهي حاربت وفنيت حفاظا على نظام يمثلها ويدعي حمايتها، ضد ثورة شعبية وطنية، ثم انتهى بها الأمر لخسارة الحكم والثورة معا، وستصبح الطائفة طائفة مارقة تستحق الحرب من النظام الجديد.

تحرك الطائفة النصيرية في سوريا ضد النظام الجديد، سيدعمه تحرك لحزب الله في لبنان، والذي بدوره سيشتبك مع تيار سياسي عسكري جديد يشابه النظام السوري المنشئ حديثا ( سني علماني )، ومدعوما من الدول الكبرى وأذنابها من الأنظمة الوظيفية خاصة المحسوبة على السنة.

ما تبقى من ثورة ممن لا يرى في النظام الجديد تحقيقا لأهداف ثورته سيتقوقع في مناطق شمال سوريا، ويخضع بشكل مباشر لإشراف تركي، وسيبذل وسعه في استغلال التدافع الحاصل ليحرز ما يقدر عليه من مكتسبات، لكن مهمته ستكون عسيرة من وجهين، فلا هو حر القرار والتحرك بسبب الإشراف التركي، ولا هو يحظى بالشرعية الثورية القديمة التي قد سلبه أغلبها النظام الجديد، مما سيجعل من تبقى من ثوار في حيرة من أمره فها هو بشار قد رحل مع عائلته، وتم تنحية أكابر مجرمي النظام، وتم قطع أذرع إيران، وتم تحجيم الطائفة النصيرية، وتم وضع رئيس "سني" لم تتلطخ يديه بالدماء، وهذا الرئيس متوافق عليه دوليا وإقليميا، وبدأ جهودا طيبة في إعادة إعمار سوريا بإشراف دولي، وأصدر عفوا حقيقيا عمن يريد تسوية أوضاعه من الجيش الحر، ووضع دستورا جديدا لسوريا أفضل من دساتير البعث، وحارب بقايا النظام السابق من العصابات الطائفية.

ومن جهة أخرى يسأل من تبقى من ثوار أنفسهم مستغربين هل هذا هو ما خرجتُ له ثورة وقدمت فيها الغالي والنفيس!؟

إذن هو وضع بَين بَين، فلا حققنا بشكل كامل أهداف الثورة التي خرجنا من أجلها وضحينا، وبنفس الوقت لم ينتصر علينا النظام كما كنا نخشى، ولنضع في حسباننا مقدار الآلالم والتضحيات الشخصية والعامة التي تحمّلها الشعب السوري طوال هذه السنوات، ثم لتجبني عزيزي القارئ....

هل أعددنا أنفسنا على الأقل كأشخاص لسيناريو محتمل؟

هل فكرنا من الآن بما علينا فعله إن وجدنا أنفسنا في موقف مشابه؟

يا ترى ماذا سيكون موقف كل شخص فينا حينها؟

أذكّر أن ما كتبته يندرج تحت عنوان #خيال_سياسي لكن ماذا لو أصبح هذا الخيال واقعا؟

ألم تكن الثورة في سوريا ضد نظام البعث خيالا ذات يوم!!!؟؟؟

جاد الحق


12‏/04‏/2018

#قصة_الثورة_في_حلب 2

قلنا أنه في أواخر 2011 وبدايات 2012 حلب دخلت الثورة بقوة، ودخلت أفرع المخابرات فيها بحالة من الهستيرية والتخبط، فالمدينة كبيرة، وتعج بالسكان، والأعمال الثورية المختلفة فيها لا تنقطع.

كان الريف الحلبي كحال كل الأرياف بالثورة سباقا بالتحرر، وكلما تتحرر قرية كان شبيحتها يهربون مع عائلاتهم للمدينة، واستغل النظام ذلك في محاولة ترجيح الكفة ضمن المدينة لصالحه، ويوم أتى موعد تحرير المدينة من قبل الجيش الحر حصلت عدة أخطاء كارثية كانت بمصلحة النظام.

الخطأ الأول أن الجيش الحر توجه لداخل المدينة وترك قطعا عسكرية مهمة خارجها لم تحرر بعد، مما حول المدينة المكتظة لساحة حرب، ولّدت مأساة إنسانية مفجعة من قتل ونزوح.

الخطأ الثاني أن الجيش الحر دخل المدينة من أحيائها الفقيرة المكتظة والغير مخدمة أساسا، وصرف جهده في الاشتباك مع مخافر شرطة لا أهمية استراتيجية لها، أو بعض الشبيحة المحليين، لذلك قام النظام بخبث بترك شبيحته يقاومون في مخافر الشرطة، مع أذنابهم من المخبرين، واللجان التشبيحية للأحياء الفقيرة والمهمشة، وانسحب منها، وهي التي تشكل أكثر من ثلثي المدينة، وتمركز في القسم الغني المتبقي الذي يحوي أفرع المخابرات، ودوائر الدولة، والجامعة، وتسكنه الطبقة الثورية، وهنا بدأت الكارثة، فقد احتل النظام الأحياء الثورية الغنية، والتي تحوي أفرعه الأمنية، وثقل المدينة الإداري والاقتصادي، وحرر الثوار الأحياء التشبيحية التي تحوي حاضنة قوية، وكبيرة للنظام، ولا تملك ثقل إداري أو اقتصادي يوازي الأحياء المحتلة.

الخطأ الثالث أنه بعد التحرير وجد الثوار أنفسهم أمام ما لا يقل عن 2.5 مليون شخص في حلب المحررة يطالبونهم بالماء والكهرباء والخبز والنظافة والأمن، ولم تكن معركة الإدارة المدنية للمحرر في بال أي شخص من الثوار، فحصلت حالة من الفوضى والاضطراب، حاولت الفعاليات الثورية التخفيف منها قدر الإمكان بحلول إسعافية تنقذ ما يمكن إنقاذه.

الخطأ الرابع أنه في بداية دخول الجيش الحر ( الذي كان أغلبه من ريف حلب ) كان مثالا للخُلُق القويم والأمانة، لكن لاحقا حين رأى عناصر الجيش الحر غنى المدينة الفاحش مقارنة بريفها، وانعدام مؤسسات الرقابة والمحاسبة الثورية، وعدم تجمع أبناء المدينة في فصيل عسكري واحد يجمع شملهم، ويستلم قيادة مدينتهم، بدأ ضعاف النفوس في صفوف الجيش الحر إلى سرقة البيوت والمعامل في حلب، واختطاف المدنيين بتهمة التشبيح مع طلب فدية عليهم، مما ساهم في زيادة الشرخ في الحاضنة الثورية داخل المدينة، وجعل فئة الرماديين الذين دخلوا الثورة يرون أن النظام حل أقل سوءا من الثوار، وهكذا تعرضت شعبية الثورة والجيش الحر في حلب لهزة عنيفة فقدتا من خلالهما زخما كبيرا تحتاجانه، خاصة بعد معاناة المدنيين وإذلالهم في معبر بستان القصر بمدينة حلب من قبل بعض المحسوبين على الجيش الحر، مما أدى لتراجع شعبية الثورة وتأييدها في المدينة.

الخطأ الخامس قبول الجيش الحر لوجود الشبيحة " التائبين " في صفوفه، وقد كان هذا اجتهاد خاطئ من عبد القادر رحمه الله وكان يبرر ذلك بقوله " كلب يعوي معك أحسن من كلب يعوي عليك " ، وطبعا قام هؤلاء الشبيحة بالدور الاستخباراتي المطلوب منهم على أكمل وجه ولازلنا للآن ندفع ثمن الاجتهاد الخاطئ لعبد القادر الصالح رحمه الله، وقد كان رحمه الله مثالا للتواضع والصدق كما نحسبه، وبنفس الوقت مثالا للدروشة والبساطة.

إساآت بعض المنتسبين من الجيش الحر للمدنيين كان هدية قيمة على طبق من ذهب للتنظيمات التكفيرية السوداء على رأسها داعش، حيث استطاعت داعش عبر قتالها للفصائل المسيئة بحجة حرب المفسدين أن تحظى بشعبية كبيرة بين الثوار والمدنيين على السواء، فالمدنيون خاصة المعارضين منهم للنظام اعتبروها الخيار الأفضل، والثوار الشرفاء انخدع الكثير منهم بشعاراتها فأحجم عن قتالها وتلكأ.

استمر الوضع كذلك حتى أواخر 2013 وبدايات 2014 حين تشكل جيش المجاهدين وأعلنت الحرب على داعش داخل المدينة حتى تم طردها منها أوائل عام 2014.

في الجزء الثالث سنتطرق بإذن الله لحال المدينة من 2014 حتى معارك فك الحصار....


جاد الحق


06‏/04‏/2018

#قصة_الثورة_في_حلب 1

مدينة حلب العاصمة الاقتصادية لسوريا، وثاني أهم مدينة بعد العاصمة دمشق، مكانة تاريخية وثقافية بارزة، وثقل سياسي وبشري هائل، باختصار هي ورقة الربح لمن يعرف استغلالها، لكن كيف صدمت هذه المدينة النظام والثورة على حد سواء؟

في أواخر سبعينيات القرن الماضي وبداية الثمانينات كانت هذه المدينة من أقوى المعاقل للإسلاميين المعارضين لحكم الأسد الأب، واستعصت كثيرا عليه حتى طوعها عسكريا باجتياحها من الفرقة الثالثة بالجيش السوري بقيادة الضابط النصيري شفيق فياض، واجتماعيا بضرب طبقة التجار والصناعيين من أبناء المدينة الذين شكلوا العصب الاقتصادي لجماعة الطليعة المقاتلة، واستبدلهم بفئة انتهازية متحالفة معه من حديثي النعمة كامثال الشبيحين فارس الشهابي والعزوز، ولم يكتفِ بما فعله بل ثنى ضربته على المشايخ المعارضين والمثقفين من أبناء المدينة، فقام بتصفيتهم أو اعتقالهم أو تهجيرهم، وبالمقابل صدّر للناس طبقة من المثقفين والمشايخ الموالين له قلبا وقالبا، أو على الأقل الذين لا يرونه عدوا، كالنبهاني، وتلميذه محمود الحوت، المعروفين باتجاههما الصوفي الموالي للحكام، كحال السلفية الجامية والمدخلية.

لم يقف الأسد الأب عند هذا الحد بل استقدم عشائر موالية له من الأرياف والبوادي فأسكنها مدينة حلب _ كشبيحة آل بري المشهورين قبل الثورة بتجارة المخدرات _ تحديدا في أحياء الميسر وباب النيرب والمرجة، وجلب أيضا عائلات ضباطه وموظفيه الموالين له خاصة أبناء طائفته، وزرعهم في المدينة بعد أن أنشأ لهم حي الحمدانية، وعمل النظام على نسف مفهوم الوجهاء في مدينة حلب بحيث أنه لا يوجد شخصيات اجتماعية معروفة تمثل أهالي حلب فعلا، فمثلا لتكريس الشقاق الاجتماعي كان إمام المسجد أو الخطيب من منطقة مغايرة لمنطقة أهل المسجد، وتحولت مديرية الأوقاف في عهدي الأسد الأب والابن إلى فرع مخابرات للتجسس على من يرتاد المساجد.

باختصار قام حافظ الأسد بعملية تخريب ديموغرافي ممنهج لنسيج المدينة الاجتماعي المتين، ليحوله إلى خليط هش غير متجانس يسهل السيطرة عليه وتسخيره، وسنرى نتائجها الكارثية لاحقا بعد اندلاع الثورة.

بدأت شرارة الثورة من درعا وانتقلت بسرعة إلى بانياس وحمص، واللاذقية، وريف دمشق، وكانت جميع الأعين تتجه لمدينة حلب، لكن النظام كان أسرع مبادرة، فقام بعد بداية الثورة بحملتي اعتقال متوازيتين ضمن المدينة، الأولى والأهم كانت موجهة لبقايا النخبة المثقفة من أبناء المدينة الذين قد يصبحون نواة ثورية واعية تهدد خطر النظام، والثانية تستهدف المجرمين المطلوبين، وأصحاب السوابق، وهدفها التغطية على الأولى، وتجنيد هؤلاء المجرمين ليكونوا لجان شعبية أو ما عرف لاحقا بالشبيحة.

مع ذلك بأواخر شهر آذار حصلت عدة تحركات ومحاولات تظاهر في عدة أماكن بالمدينة، كساحة سعد الله الجابري، والجامع الأموي الكبير، وأحياء الشعار، وبستان القصر، وسيف الدولة، لكن المخابرات السورية كانت تتمكن من إجهاضها بعنف وصمت بعيدا عن ضجة الإعلام، مباشرة فور بدئها.

عمل النظام على عزل حلب عن محيطها الثوري بخطة جهنمية، حيث قام بالضخ العقائدي عبر عملائه من مشايخ حلب كالحوت، والحسون، وعبد اللطيف الشامي وغيرهم، لأنه يعرف أن لأهل حلب ميل للتدين الصوفي، فعمل هؤلاء المشايخ العملاء على النشر بين أهل حلب أن ما يجري ليس ثورة، بل هو فتنة، ويحرم الخروج على بشار الأسد لأنه ولي أمر شرعي إلى آخر هذه الديباجة، وأيضا لفق النظام الكثير من عمليات إحباط تفجير سيارات مفخخة في أحياء حلب الشعبية التي ينتشر بها الفقر والجهل، وكانت لوحات هذه السيارات من مناطق تنتشر بها الثورة.

بنفس الوقت كان إعلام النظام يركز على إبراز حلب وأهلها على القنوات السورية أنهم مؤيدون له، ويخرجون بمسيرات، وأن الحلبيين شعب انتهازي لا يبالي بمشاكل غيره، وبدأ عملاء المخابرات السورية بحرب الشائعات والدعاية لتمزيق الصف السوري الثوري، ففي حلب ينشرون أن هذه الثورة هي ثورة ريف على الريف، وأن مصلحة حلب بالوقوف على الحياد، وبدأ عملاء النظام تحديدا من المشايخ بترويج العبارات الشهيرة " الله يطفيها بنوره " و " الله يظهر الحق " ، وخارج حلب ينشر عملاء المخابرات السورية أن أهل حلب شبيحة ومؤيدين، وكان لهذه الدعاية الأثر البالغ إذ انساق خلفها كثير من الناس، وبدأت تحصل تجاوزات مدعومة سرا من النظام ضد كل شيء يحمل اسم حلب خارج المدينة، ابتداءا من أهلها، وانتهاءا بالسيارات التي لوحاتها حلب.

وأيضا قام النظام بتقديم امتيازات كانت محظورة عن أهل المدينة وخصّ بها شبيحته، فمثلا أصبحت بلدية حلب تغض الطرف عن ملاحقة الباعة على الأرصفة والشوارع ( وغالبيتهم من الفقراء ) بعد أن كانت طوال سنوات سابقة تشن عليهم حربا لا هوادة فيها لتحرمهم من لقمة عيشهم، وسمح النظام لكبار شبيحة المدينة أن يستثمروا بخطوط النقل الداخلي للمدينة، وأطلق النظام العنان لشبيحته في البناء العشوائي مما سبب لمواطنين حالة من الإرباك الشديد والتخبط نتيجة المشاكل المسببة من قبل مخالفات البناء وتعدي الشبيحة على أملاك الناس، ساهم كل ذلك بخلق حالة من البلبلة الملهية عن موضوع الثورة.

ورغم كل ذلك كانت وتيرة المظاهرات ضمن المدينة بازدياد، وكانت القبضة الأمنية داخل المدينة ثقيلة وخانقة، لدرجة كانت المظاهرة داخل المدينة ترقى لمستوى العملية الاستشهادية، فالناس قبل المظاهرة تودع بعضها وتطلب امن بعضها الصفح والعفو، وإن رجعت بخير تهنئ بعضها بالسلامة، وأصبح جامع آمنة بحي سيف الدولة، المركز الرئيسي للمظاهرات، ثم دخلت لاحقا على الخط مساجد أخرى كمساجد الزبير، والناصر، وأويس، في حي صلاح الدين.

من أهم الركائز الثورية في مدينة حلب التي تميزت بها المدينة عن غيرها هي ثورة الجامعة، أو ما عرف بثورة المثقفين، فجامعة حلب تحولت لبركان يغلي من الثورة، وتحول طلابها بأغلبهم لخلايا نحل ثورية أرقت النظام كثيرا، خاصة في كلية العلوم، والصيدلة والطب البشري، والهندسة الكهربائية، لدرجة أنه أشيع أن النظام سينشئ فرع مخابرات خاص بجامعة حلب باسم الأمن الجامعي.

ما ساعد على انتشار الثورة بين صفوف الطلاب عدة أمور، أهمها المستوى الاجتماعي والثقافي، والثقة المتبادلة بين الطلاب نتيجة المعرفة المسبقة، واحتكاك طلاب مدينة حلب بإخوانهم من المحافظات الأخرى.

لم يدخر النظام جهدا في طمس ثورة حلب، ومن أحد وسائله الناجحة استخدام ما يسمى " الجيش السوري الإلكتروني " وهم مجموعة من الشبيحة الذين يعتبرون مثقفين مقارنة بالشبيحة العاديين، فقط لأنهم يجيدون نوعا ما التعامل مع وسائل التواصل وأجهزة الهاتف المحمول، وكان هؤلاء الشبيحة يبلغون على كل مقاطع المظاهرات في مدينة حلب مما يجعل اليوتوب يحذفها، فضاع أرشيف مهم للمظاهرات الأولى في مدينة حلب.

جدير بالذكر أن الأحياء التي خرجت منها الثورة في حلب، وأخرجت العديد من الثوار السلميين والعسكريين، هي الأحياء الراقية التي تسكنها الطبقات المثقفة، المتوسطة والمرتفعة الدخل، أما الأحياء المهمشة والفقيرة، فقد كان غالبية أبنائها يعملون لأوقات طويلة في ورشات صناعية يتبع أصحابها للنظام بشكل مباشر أو غير مباشر، وباستخدام الخبز وأفيون الدين المزيف تم تطويعهم لصالح النظام.

ورغم كل ذلك كانت الثورة في المدينة تزداد شيئا فشيئا، والنظام يخسر الغالبية الصامتة من المدينة لصالح الثورة، فحلب لم تكن مؤيدة للنظام، والنظام أذكى من أن يصرف جهده وموارده ووقته في جعلها تؤيده، بل كان أذكى من ذلك حيث جعلها بأغلبها على الحياد، والحياد تأييد مقبل عند النظام، لكنه بأواخر عام 2011 وبداية 2012 بدأ الحياد يتحول لثورة.


في الجزء الثاني بإذن الله نكمل ما حصل بعد أن دخلت حلب الثورة بقوة


جاد الحق