01‏/10‏/2017

اعترافات قاتل اقتصادي

يقول جون آدامز ثاني رئيس للولايات المتحدة الأمريكية: ” هناك طريقتان لقهر واستعباد أمة، الأولى بحد السيف، والثانية عبر الديون “.

مصطلح الاغتيال الاقتصادي لم يشتهر إلا بعد أن أطلق الخبير الاقتصادي الأميركي ” جون بيركنز ” كتابه ” اعترافات قاتل اقتصادي ” عام 2004.

أثار الكتاب حين صدوره ضجة كبيرة بسبب فضحه لأقوى أسلوب تستخدمه الإدارة الأمريكية في إخضاع الدول وقهر الشعوب.

يطرح الكاتب حقيقة أن الإدارة الأمريكية ليست هي من يصنع القرار، بل هي أداة لتنفيذ سياسات تقررها الشركات الأمريكية الكبرى، والتي تمتلك أكثر من نصف مال العالم وموارده، ويتحكم بها أشخاص لا يتعدى عددهم 400 شخص.

يقوم مبدأ الاغتيال الاقتصادي على استبدال الغزو العسكري العنيف والمكلف، بالغزو الاقتصادي الناعم الأقل كلفة، وذلك عبر إعطاء الدول الفقيرة والنامية قرض من البنك الدولي مع فائدة ربوية، ثم إجبار هذه الدولة عبر الضغط على قيادتها بالترغيب والترهيب على إعطاء عقود استثمارية للشركات الأميريكية، ومن يرفض يتم اغتياله، أو إسقاط حكومته إما بانقلاب، أو بغزو عسكري إن اضطر الأمر.

بعد توقيع العقود ستكتشف الدولة الضحية أنها لا تستطيع سداد الدين بسبب تضخمه الربوي، وكبديل عن السداد تُجبَر على توقيع معاهدات تتخلى فيها عن سيادتها وقرارها الوطني لصالح أميركا، إما عبر رهن ثرواتها الاقتصادية كالنفط وغيره للشركات الأمريكية وتنتظر هذه الشركات لترمي لها بالفتات، أو عبر قبولها ببناء قواعد أمريكية على أراضيها، أو دخولها حرب وإرسالها لقوات تقاتل لصالح أميركا.

لكن كيف بدأت هذه الفكرة الشيطانية؟

بدأت هذه الفكرة في عام 1953، حين استلم محمد مصدق رئاسة الوزراء في إيران.

أراد مصدق تأميم صناعة النفط، في حال رفضت الشركات الأجنبية أن تعطي إيران حصة أكبر من نفطها الوطني.

أثار طرح مصدق غضب الولايات المتحدة، والتي كانت تخشى التورط بحرب عسكرية لإسقاط حكومة مصدق، فاستعاضت عن ذلك عبر إرسال عميل للمخابرات الأمريكية اسمه ” كيرميت روزفلت “، الذي ذهب لإيران مزودا ببضعة ملايين من الدولارات، اشترى بها ذمما رخيصة لسياسيين وعسكريين، حركوا الإعلام والرأي العام الإيراني ضد مصدق، مما أدى لإسقاطه، وعودة نظام الشاه المقرب من أميركا.

لكن كان هنالك مشكلة فيما لو اكتُشِفَ أمر العميل كيرميت، فهذا سيسبب حرجا شديدا للإدارة الأمريكية، فتم لاحقا استبدال شخصية عميل المخابرات، بشخصية خبير اقتصادي تابع للقطاع الخاص، يقدم الاستشارات والدراسات الاقتصادية لأصحاب القرار، في الدول المستهدفة.

هل هناك من دول أخرى تم استعمال أسلوب الاغتيال الاقتصادي ضدها؟

-) جواتيمالا عام 1954:

حيث كانت تسيطر شركة الفواكه المتحدة الأمريكية على البلد الزراعي، وبعد انتخاب الرئيس رابينز عمل على الحد من سيطرة الشركة، وإعادة الأرض لأصحابها، مما دفع هذه الشركة إلى القيام بحملة إعلامية مكثفة ضد رابينز وإظهاره بمظهر الديكتاتور الشيوعي، حتى تجهّز الرأي العام للتدخل ضده بذريعة حرب الشيوعية مما أدى إلى إسقاطه بانقلاب عسكري من تدبير الاستخبارات الأمريكية.

-) الإكوادور 1981:

تعاقب على حكم الإكوادور الكثير من الطغاة الموالين لأميركا، إلى أن حصلت انتخابات حرة ذات مرة، فاز بها الرئيس جايمي رالدوس، والذي انتهج سياسات وطنية معادية للمصالح الأمريكية، ورفض كل عرض أميركي لاستمالته، فتم لاحقا اغتياله في حادث تحطم طائرة.

بنما 1981:

عمر توريخوس رئيس بنما ذو الشعبية الكبيرة، والذي استفتح عهده بإغلاق مدرسة عسكرية أمريكية في بنما، كانت تُعِدّ العسكريين الموالين لها وتزرعهم في جيوش ومخابرات دول أميركا الجنوبية.

أراد توريخوس تأميم قناة بنما المائية، ورفض كل محاولات الإغراء والاستمالة والتهديد، التي عرضها عليه جون بيركنز مؤلف الكتاب، وتصارع جدا مع الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، حتى تم توقيع اتفاقية تأميم القناة بين توريخوس وكارتر، وبعدها تم اغتيال توريخوس في حزيران عام 1975، وعادت بنما للسقوط بالمصيدة الأمريكية.

هل حصلت حوادث مشابهة في البلاد العربية؟

هناك العديد من الحوادث المشابهة في الدول العربية، فمثلا بعد استخدام الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله للنفط كسلاح ضد الهيمنة الأمريكية، تم اغتياله عام 1975 في مكتبه من قبل ابن أخيه الذي قدم من أمريكا قبل ثلاثة أيام من الحادث، ولديه سجل طويل من الفضائح الأخلاقية، حيث أطلق النار على فيصل وقتله، وتم لاحقا لملمة القضية بتواطؤ من أمراء بالأسرة السعودية، عبر إشاعة أن القاتل مريض نفسي.
أيضا في مصر بعد خلع العميل حسني مبارك، وحصول انتخابات نزيهة وصل بها الرئيس محمد مرسي لسدة الحكم، وهو رئيس محسوب على الإسلاميين، وبجعبته العديد من المشاريع السياسية والاقتصادية التي تنهض بمصر، تم الإنقلاب عليه عبر السيسي عميل المخابرات الأمريكية، وإعادة مصر على يديه إلى عصور ما قبل اكتشاف النار.

ماذا عن سورية؟

سورية كانت بلدا واعدا بما تملكه من خيرات، وإن استمرت عجلة تطوره على نفس الوتيرة قد ينمو ليصبح بلدا قويا مؤثرا في السياسة الدولية.

وبعد حملة فحص وتحري طويلة، لم تجد الاستخبارات الأمريكية أقذر من شرذمة البعث لتدمير هذا البلد، فتم دعمها في انقلابها العسكري الآذاري الشهير.

دخلت سورية بعدها نفقا مظلما من الانحطاط في كافة المستويات، كان استلام حافظ الأسد فيه نقطة انعطاف، تلاها انحدار أشد من سابقه.

ثلاثون عاما والأسد ينفذ مصالح أميركا وحلفائها بكل طاعة، مقابل حمايته والسكوت عن جرائمه في سورية ولبنان.

واستمرت نفس سياسة رعاية المصالح مقابل الحماية والسكوت، في عهد ابنه بشار الأسد، وبرز اسم رامي مخلوف كامبراطور اقتصادي، يقوم بتبييض أموال العائلة الناهبة لخيرات البلد.

وبعد وقوع المحذور، وهو الثورة السورية التي تبشر بنشأة سورية جديدة حرة، تغرد خارج سرب المنظومة الدولية مؤذنة بخرابها، تدخلت أميركا القوة الكبرى عالميا بأكثر من ذراع لإفشال الثورة، كأذرعة الدعم المشروط، وداعش، وإيران، وروسيا، والأحزاب الكردية الانفصالية، في محاولة منها لإجهاض الجنين وقتله قبل أن يولد.

اليوم هناك شخصية سورية يشغل منصب مستشار البنك الدولي لشؤون إعادة الإعمار في الشرق الأوسط وشمال إفريقية، وهو عبد الله الدردري، الذي سيستلم منصبه في السادس عشر من شباط الحالي، وبحوزته كما يقول ” أجندة وطنية لمستقبل سوريا تتضمن إطارًا استراتيجيًا لبدائل السياسات لسوريا ما بعد النزاع ” بحسب ما نشر موقع ” الاقتصادي “.

المعركة الحقيقية لمستقبل سورية لما تبدأ بعد، وهي معركة انتزاع السيادة الوطنية، والثروات الاقتصادية، التي حولها آل الأسد لبغية يبذلونها إرضاءا لأسيادهم الأمريكان والروس والإيرانيين وغيرهم.

لذلك فلنجهز أنفسنا من الآن لسيناريوهات الاغتيالات الاقتصادية، عبر القروض الربوية الدولية بحجة إعادة الإعمار، وفي حال رفضها فهناك الحصارات الدولية، والثورات المضادة، وربما الغزو العسكري.

والخلاص من ذلك لا يكون إلا بوجود رؤية متكاملة لسورية ما بعد الأسد، يصوغها السوريون بأنفسهم مع ما يتوافق مع دينهم ومصالحهم الوطنية، ويحميها جيش وطني عقائدي حقيقي، وجهاز مخابرات يعمل لمصلحة الشعب.

جاد الحق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق