النظام السوري وحلفاؤه، ومِن خلفهم النظام الدولي، يحقنون الثورة اليوم بمخدر ما قبل الذبح الأخير؛ فالهدوء المصطنع الذي نعيشه غايته إرخاء أعصاب الثوار لترتخي الأيادي عن إمساك البنادق، وتلتفت لمعاشها الذي شُغِلَت عنه سنوات، وحُقّ لها أن تشتاق للعودة إليه.
أما ما بقي من أيادٍ ممسكة بالبنادق، فهذه يتم حرفها من قبل أعداء الثورة الداخليين عبر فتح معارك أهلية الكل فيها مغلوب، والمنتصر الوحيد هو النظام الدولي الذي يئد الثورة بيد أبنائها.
توقف الغارات الجوية، وبرودة الجبهات مع النظام، وقيام بعض الأطراف بإدخال الثورة بقتالات داخلية، وفتح جبهات على الدول الداعمة للثورة، يرافق ذلك كله إشغال إعلامي عن نكبات أهلنا في شرق سورية، وأهمية المعركة التي تجري هناك لاقتسام ما تبقى من كعكة داعش، كل ذلك هو مخطط متكامل الأركان، تام البنيان، لسحق الثورة السورية.
لِمَ لا نسأل أنفسنا كيف استطاع النظام السوري أن يسترد الكرَّة على الثوار، ويحشرهم في الزاوية الحرجة، بعد أن كانوا قد لفوا حبل المشنقة على رقبته، وينقصهم جذبه فقط ليختنق النظام، ويصرع من فوره؟
الجواب نجده بعودتين بالزمن: الأولى قبل حوالي أربعة أعوام ونصف تقريبًا، حين قام النظام بتدويل معركته الشخصية بعد تيقنه من خسارتها إن لم يغير تكتيكه، وذلك أولاً بإدخاله حلفائه الإيرانيين، وحزب الله، وباقي الميليشيات الطائفية في المعركة.
وثانيًا باللعب حسب قوانين العالم الدولي، عبر تصوير معركته على أنها بين نظام سياسي شرعي، وبين تنظيمات أصولية متشددة، تسعى لإقامة كيانات تهدد استقرار العالم، وبذلك أفرغ الثورة من مضمونها الشعبي المُتَعَاطف معه دوليًا، ومسخه لحرب مقدسة ضد "الإرهاب ".
هذه الحركة أمدت بعمر النظام إلى حين تشكل جيش الفتح وتحرير محافظة إدلب، ومساحات واسعة واستراتيجية في دمشق ودرعا، وهو ما جعل النظام يستخدم وسيلة مساعدة أخرى (العودة الزمنية الثانية)، وهي إدخال حليف جديد لجانبه وهو روسيا، واستغلال فشل الثوار في إيجاد كيان سياسي واحد يمثلهم ويحظى بقبول دولي ولو بأضعف نسبة، وتقديم النظام ومعارضته التي صنعها، على أنهم الجهات السياسية التي ممكن الحوار والاتفاق معها، والمقبولة عالميّاً.
نحتاج كثوار أن نلعب بنفس تكتيك النظام، فعلينا أن نصنع حلفاء، وندخلهم معنا بمعركتنا بشكل مباشر، وذلك لا يتم إلا بإعادة الثورة إلى شعبيتها، وإنشاء كيان سياسي متزن يحمل أهداف الثورة السورية وأدبياتها، ولا يحوي شخصيات متسلقة دخيلة، تفرض نفسها على الشعب، كأنها المهدي الذي سيُخرِج الثورة من التيه الذي تعيشه.
ولوينستون تشرشل في موضوع الحلفاء مقولة عميقة؛ حيث قال: "الأسوأ من وجود حلفاء سيئين لك، هو ألا تملك حلفاء من الأساس".
اليوم من بإمكانهم أن يكونوا حلفاء للثورة في حالة مواجهة سياسية واقتصادية، هذه المواجهة تضع الثورة السورية أمام استحقاق خطير، فانحيازها إلى الحليف ذي المصداقية الأكبر والأيادي البيضاء الأكثر على الربيع العربي، سيفقدها الحليف الآخر ذي المكانة الإقليمية، والعكس بالعكس، ناهيك عن الغضب الذي سينزل على المغتربين السوريين بين بلدان الطرفين المتنازعين، من طرف الحكومة التي ستقف ضدها الثورة السورية.
لذلك الأولى بالثورة السورية ليس الانحياز لطرف، ولا "اعمل نفسك ميت"، بل الأفضل لها أن تدعو لرأب الصدع، وجمع الشمل، وتكون "محضر خير" بين حليفين يجمعنا بهما على الأقل عدو مشترك.
الانحياز ثمنه باهظ، فسرعان ما يتصالح الأطراف الكبار، حين يعلو صوت المصلحة، أو صوت الراعي الأكبر لهما، ووقتها تنزل اللعنات على الضعفاء الذين تحزبوا لأحدهما ضد الآخر.
سنضرب مثالين على تدويل القضية، بغية جذب أكبر عدد من الداعمين لها.
الأول: القضية الفلسطينية
فحين فرضت إسرائيل حصارها على الشعب الفلسطيني خاصة في غزة، لعب الفلسطينيون على وتر عاطفة الشعوب، عبر جعل القضية الفلسطينية قضية كل حر لديه ضمير إنساني، فتحرك مئات النشطاء الغربيين لدعم القضية الفلسطينية، وقُتِلَ بعضهم برصاص جيش الاحتلال الصهيوني، كالأمريكية راشيل كوري، والبريطاني توم هارندل.
وأيضًا في غزة حين فُرِضَ الحصار عليها، أبحرت العديد من السفن لكسر الحصار من بلدان أوروبية كالسويد، وقبرص، وفنلندا، وإسبانيا، وعلى متنها نشطاء سلام، وأكاديميون، وأطباء، وبرلمانيون، وصحافيون.
الثاني: ما حصل في ليبيا إبان ثورتها ضد القذافي.
ففي أواسط آذار 2011، تمكنت كتائب القذافي بتفوقها العسكري، خاصة الجوي، من كسر خطوط الثوار والتقدم نحو الشرق مهددة بنغازي عاصمة الثورة، حينها بدأ الكيان السياسي الممثل للثورة الليبية وهو المجلس الوطني الانتقالي برئاسة مصطفى عبد الجليل، معركة ديبلوماسية عنيفة، كانت نتيجتها إصدار القرار رقم 1973 من مجلس الأمن، الذي ينص على تشكيل منطقة حظر جوي فوق ليبيا، وحماية المدنيين، وبدأت الطائرات الفرنسية بقصف مواقع وأرتال كتائب القذافي، والبوارج الأمريكية أطلقت صواريخ توماهوك على مقر إقامة القذافي في باب العزيزية بطرابلس وغيره من المواقع العسكرية للقذافي، وانتشرت التظاهرات المرحبة بالقرار في المدن الليبية، واستطاع ثوار ليبيا خلال بضعة أيام كسر تقدم كتائب القذافي، ومع استمرار الدعم الجوي للثوار الليبيين، تم إسقاط نظام القذافي خلال بضعة أشهر، وتحررت ليبيا.
سيقول البعض أمريكا وفرنسا لم تتحركا لسواد عيون الشعب الليبي، وهذا صحيح، وهنا مربط الفرس، أن تستطيع مخاطبة المجتمع الدولي، وإقناعه بأن مصلحته معك وليست مع خصمك.
عند قراءة التجارب الناجحة لحلفائنا من أحرار العرب كفلسطين، وليبيا، ولأعدائنا، كالنظام السوري، وحزب الـ pkk، نجد على الجانبين فائدة تدويل القضية، وإشراك الحلفاء.
جاد الحق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق