14‏/10‏/2017

خفايا الدخول التركي إلى إدلب


المتتبع لأثر المخابرات التركية في الملف السوري يجده قد مر بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى من بداية الثورة المسلحة إلى ظهور داعش ثم معركة كوباني
في هذه المرحلة نرى تعاونا كبيرا من المخابرات التركية مع الثورة السورية، تجلى ذلك بالتسهيلات التي كانت تقدمها تركيا عبر حدودها مع سوريا، بما يتعلق بمرور السلاح، والمقاتلين، تحديدا الجهاديين من غير السوريين.

المرحلة الثانية، تبدأ من من ظهور داعش، وازدياد نفوذ حزب ال pkk في سوريا، حتى مرحلة الانقلاب
وتميزت هذه الفترة بمحاولة المخابرات التركية التأثير في الملف السوري، لكنها كانت مقيدة بنفوذ أجهزة مخابرات الدول الأقوى تحديدا أميركا، وبسبب وجود مشروع مدعوم غربيا لاحتواء ودعم فصائل الجيش الحر.

المرحلة الثالثة تبدأ من إفشال الانقلاب التركي، وتستمر للآن، تتميز هذه المرحلة بظهور أثر المخابرات التركية في تحكمها بالمسار العسكري للثورة السورية، خاصة عبر عملية درع الفرات، ويعود ازدياد نفوذ المخابرات التركية إلى فشل الانقلاب، حيث قامت إدارة أردوغان باستئصال أتباع غولن من مؤسسات الدولة، وأولها الجيش والمخابرات، مما أسهم في توحيد رؤية النظام، وانسجام عمله، بما يتوافق مع أمر القيادة، وأيضا قام أردوغان بزيادة نفوذ " حقان فيدان " ، رجل المخابرات التركية القوي الذي أثبت جدارته، حيث كافح أذرع باقي أجهزة المخابرات الأجنبية في تركيا، تحديدا الموساد.

ظهر بالنسبة للملف السوري مشروعان متضادان
الأول مشروع سوريا موحدة
الثاني مشروع تقسيم سوريا
رواد المشروع الأول هم روسيا، إيران، وتركيا، وغايتهم ببقاء سوريا واحدة هي بالنسبة لتركيا وإيران عدم ظهور دويلة كردية تصبح مصدر تهديد للدولتين، ولمشروعهما، وأمنهما القومي، لأنهما تمتلكان تقريبا نفس المكونات القومية الموجودة في سوريا، سيما أن تركيا تعتبر سوريا عمقها الاستراتيجي وصلتها بالعالم العربي والإسلامي، وبالنسبة لإيران وروسيا فهما تفضلان ابتلاع الدول كاملة لصالحمها  _ حيث كانت إيران معارضة سابقا لمشروع تقسيم العراق _  ، وأيضا لأن التقسيم سيولد دويلة كردية تتبع تماما لمصالح أميركا وإسرائيل وتهدد مصالح إيران وروسيا.

رواد المشروع الثاني ( مشروع التقسيم ) هم أميركا والدول الأوربية، إضافة لتوابعهم من دول عربية كالأردن والسعودية والإمارات.
فالتقسيم يضمن لهم استمرار الصراع، ما يعني صفقات تسليح، واستثمار ثروات، وتحالفات جديدة، وقواعد عسكرية، والأهم ضرب للدول التي تحاول الخروج من قيد القطب الأمركي الواحد، أو تهدد مشاريعها التوسعية استقرار دول حلف التقسيم.

ببدء مفاوضات آستانة، بين دول مشروع وحدة سوريا، وحضور روسيا وإيران كضامنين عن النظام السوري، كان موقف تركيا أضعف منهما، لعجزها عن السيطرة على كافة فصائل المعارضة السورية، فقد كان لديها عقبتان رئيسيتان، هما حركة أحرار الشام الإسلامية، وهيئة تحرير الشام التي تكونت من جبهة فتح الشام وفصائل أخرى، وهما الفصيلان الرئيسيان في الشمال السوري.

حاولت تركيا أن تقنع بالحضور أحرار الشام، وهو الفصيل الأكبر على الساحة الثورية السورية، وصاحب الحضور والرمزية الأقوى، ويمثل الفكر الإسلامي الثوري المعتدل، الذي ينجح في أن يكون وسيطا بين الجيش الحر، والجهاديين.

رفضت أحرار الشام حضور آستانة لسبب بسيط، هو خوفها من مزاودات وتشويش منافستها هيئة تحرير الشام، وكان هذا الرفض هو القشة التي قصمت ظهر البعير في علاقة تركيا بأحرار الشام، وقررت تركيا بعدها إنهاء الأحرار كفصيل قوي بالساحة السورية، وتركيا وقتها لم تكن تملك ورقة ضغط على أحرار الشام كباقي الفصائل، عبر ابتزازها بالدعم، لأن سيطرة أحرار الشام على معبر باب الهوى الحدودي، وفر لها حد أدنى من التمويل يحمي استقلالية قرارها.

بنفس الوقت كانت الاشتباكات تندلع بشكل متكرر بين الأحرار والهيئة، بسبب رغبة تحرير الشام، بإنهاء أحرار الشام، لأنها عقبة قوية في طريق بسط سيطرتها ومشروعها، حيث كانت تحرير الشام  _ نسخة معدلة ومطورة من السلفية الجهادية _  تحاول تطبيق نظرية إدارة التوحش في إدلب، لتنشئ شبه دولة مقبولة إقليميا وعالميا.

كانت أحرار الشام تعمل بخطة دفاعية وقائية، تضمن لها أقل خسارة ممكنة، وتجنبها دخول حرب مفتوحة مع تحرير الشام، بنفس الوقت كانت تحرير الشام تعد نفسها لهجوم كبير تسقط به أحرار الشام.

قامت المخابرات التركية بإرسال تطمينات ووعود لبعض الأفراد في قيادة أحرار الشام السابقة، أنها في حال شنت عملية عسكرية ضد الهيئة فستقوم تركيا بدعمها، خاصة أن الهيئة كانت تعد لهجوم كبير على الأحرار، والأحرار تعرف ذلك.

وسبق ذلك أن أرسلت المخابرات التركية للهيئة، شخصية معروفة بالثورة السورية، ومقربة من قيادة تحرير الشام، ولها علاقات جيدة وقديمة بأبي محمد الجولاني، قائد الهيئة الحالي، وأوصلت هذه الشخصية رسالة مفادها أن تركيا سئمت من تشرذم الفصائل السورية وفشلها بإدارة ملف الثورة، وتريد التعامل مع فصيل واحد قوي صاحب شوكة وتأثير، لكنها تشترط أن ينشئ هذا الفصيل واجهة مدنية له من أجل تسهيل مهمة دعمه دوليا وإقليميا من تركيا، والتقطت الهيئة الطعم، وفهمت أن هذا ضوء أخضر تركي لإنهاء أحرار الشام.

صدّقت قيادة الأحرار السابقة الوعود التركية، وبدأت هجوم غير مخطط له، على هيئة تحرير الشام أواخر تموز الماضي، طمعا بوجود دعم تركي سيقدم لها حال بدء الهجوم، لكن تراكم الأخطاء داخل الأحرار ولّد حالة من الترهل شلّت حركتها، مما سهّل عملية الهيئة في إقصاء الأحرار عن الواجهة.

الوضع الداخلي المترهل للأحرار كان كفيلا بإنهائها بفعل عامل الزمن، لكن الهجوم غير المحسوب على الهيئة سرع من أجل الأحرار.

أسباب ترهل البيت الداخلي للأحرار كثيرة، منها مثلا، غياب القائد الرمز الذي يجمع الكل، وعدم وجود قيادة قوية قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة، انتشار الولاآت العشائرية والمناطقية على حساب الانتماء الفكري والتنظيمي، إيواء شخصيات فاسدة ونفعية، بذريعة كسب ولائها، لكنها سرعان ما أعلنت حيادها في القتال مع الهيئة، أو سارعت للانضمام لها، وأيضا عدم وجود فكر واحد يجمع شمل الأحرار خاصة بموضوع قتال الهيئة، إلى آخر أخطاء حركة أحرار الشام التراكمية، التي يعرفها كل متتبع للشأن الثوري السوري.

استطاعت تحرير الشام تحييد قسم كبير من أحرار الشام خلال أيام معدودة، وتم حصر من تبقى منهم في معبر باب الهوى، وقسم آخر انحاز إلى جبل الزاوية وسهل الغاب.

اكتفت مكونات الهيئة العسكرية بالسيطرة على التلال المشرفة على المعبر، لتسقطه نيرانيا، ولم تقتحمه، ما يؤكد وجود اتفاق وتنسيق مسبق بين الهيئة والأتراك من أجل تفكيك أحرار الشام، وأعلنت الهيئة أنها ستسلم المعبر لإدارته المدنية السابقة، المعروفة بميلها للهيئة، مع ضمان سيطرتها أمنيا عليه، عبر وضع كتائب أمن تتبع ظاهريا لإدارة المعبر، بينما فعليا هي من الهيئة.

وحين انسحبت أحرار الشام إلى منطقة درع الفرات، لم تدخل تركيا سيارات الأحرار، ولا الكميات الكبيرة من السلاح التي أخرجتها من مستودعاتها لتأخذها معها إلى منطقة ريف حلب الشمالي، حتى لا تصبح الأحرار هناك قوة تهدد باقي الفصائل.

بعد أن استقر الوضع للهيئة في إدلب حاولت إنشاء الإدارة المدنية التابعة لها، لكن هذه الإدارة لم تلقَ الاهتمام أو الدعم التركي الموعودان، ورافق ذلك تسريبات لمكالمات بين قيادة الهيئة عبر أجهزة اللاسلكي، يظهر فيها ما قال عنه ناشطون ثوريون أنها فضائح، وتركت هذه التسريبات أثر سلبي كبير على الهيئة، عبر تراجع شعبيتها بين المدنيين، وخروج مظاهرات شعبية ضدها، وانشقاق مكونات مهمة عنها، كحركة نور الدين الزنكي، وبعض من أعضاء اللجنة الشرعية فيها، كالمحيسني والعلياني، السعوديان، إضافة لانشقاق كتائب وألوية تتبع لها.

لكن يبقى السؤال هو من سجل وسرب هذه التسجيلات؟

كثيرون يشيرون إلى أثر المخابرات التركية من وراء الكواليس، استمرارا منها في خطة تطويع المعارضة السورية، عبر تفكيك من يرفض المشروع التركي للثورة، المتمثل بالجيش الوطني، الذي سيجمع مكونات المعارضة السورية المتشرذمة، تحت غطاء سياسي مقبول دوليا وإقليميا.

قبل تفكيك أحرار الشام، قامت الهيئة بتفكيك ومحاربة عدة فصائل تابعة للجيش الحر، بحجة أنها حضرت آستانة، وتريد الحل السياسي الذي يضيع ثمرة جهادها وتضحياتها، وتهدف لإدخال الجيش التركي، الذي تصفه بالعلمانية والكفر، إلى الشمال السوري، ومن قبل قامت الهيئة بالتشنيع على الفصائل المشاركة في درع الفرات، واعتبرت المشاركة فيه خيانة وعمالة، ومظاهرة للكفار ( أميركا وتركيا وحلف الناتو ) على المسلمين ( تنظيم الدولة )، وطاردت واعتقلت الكثير من المنتسبين لفصائل درع الفرات.

وحين بدأت تركيا بالتهيئة الإعلامية لدخولها إدلب من أجل إيقاف تمدد تنظيم ال pkk، إلى البحر المتوسط، اعتبرت الهيئة أن هذا عدوان واحتلال من أجل ما سمته محاربة المجاهدين وتحكيم شرع الله الذي تُحكَم به إدلب، وضج إعلام الهيئة خاصة الرديف، بتكفير تركيا وأردوغان والجيش التركي، ومن سيدخل معهم إدلب، أو يرضا بدخلوهم، وكَثُرَ التهديد والوعيد لمن سيدخل إدلب وأنها لن تكون نزهة لهم، وبالغ إعلام الهيئة الرديف تحديدا بذلك.

وحين بدأت إجراءات دخول الجيش التركي ودرع الفرات لإدلب، أخرجت الهيئة بيانا توعدت فيه بقتال درع الفرات، وأنها لن تسمح له بالدخول لإدلب، مع تعمد عدم ذكر أي شيء بخصوص تركيا أو جيشها، مما فسره البعض أنه رسالة مبطنة لتركيا أن الهيئة تطمع أن تعتمدها تركيا مندوبا لها في إدلب بدلا من درع الفرات.

العجيب أن الهيئة حاربت درع الفرات، وقام بعض المحسوبين عليها بتكفيره، خاصة بعد تصريحات أردوغان، أن القوات البرية التركية ومن معها ستدخل إدلب، تدعمها جوا القوات الروسية، وغايتها وقف تمدد ال pkk ، وتثبيت مناطق خفض التوتر، الناتجة عن اجتماعات آستانة، ومع ذلك حين دخل الجيش التركي إدلب، دخلها بحماية الهيئة التي سابقا حاربت وكفرت من اتهمته بالتعاون معه، أو يسعى لإدخاله لإدلب!!!!

تناقض خطاب الهيئة الإعلامي، مع تصرفها على الأرض، سبب شرخا كبيرا في الهيئة، تُرجِمَ لانشقاقات جديدة، وتذمر من قواعد الهيئة، خاصة بعد محاولة البعض منهم مهاجمة طلائع القوات التركية في ريف حلب الغربيْ مما أدى لاعتقالهم من أمنيي الهيئة، وصرح إعلام الهيئة أن الدخول التركي كان بعد الاتفاق معها!!!

وإننا نتسائل أين هو هذا الاتفاق؟ وما هي بنوده؟ وأين ومتى تم توقيعه؟ ومن وقعه بالنيابة عن كل طرف؟

والأغرب من ذلك إن كان هذا الاتفاق المزعوم موجود فعلا، فلماذا لا تظهره الهيئة أو تسربه، علما أنه يشكل نصرا كبيرا لها، لأنه يعتبر اعتراف رسمي من قوة إقليمية فاعلة بالهيئة.

لكن ماذا بعد الدخول التركي لإدلب بموافقة الهيئة وحمايتها؟

اليوم كل الاحتمالات هي ضد الهيئة، فإما أن تستخدم تركيا الهيئة كوقود لمعركة ضد ال pkk ، مما يؤدي لإضعافها وتكريس الهيمنة التركية، أو أن تدخل الهيئة في معركة خاسرة مع تركيا ودرع الفرات وتفقد بسرعة ما بقي لها خاصة أن هناك أطرافا داخلية في إدلب تتربص بالهيئة لتنتقم منها جراء تفكيكها وسلب سلاحها، أو أن ترضا الهيئة بالأمر الواقع وتفقد مصداقيتها بين جمهورها بعد أن سقطت دعايتها، أو أن تنحاز الهيئة للمشروع المضاد لمشروع تركيا، وهو مشروع التقسيم الذي ترعاه أميركا ودول الغرب، وتأخذ منهم الدعم لقتال تركيا والجيش الحر معها، مما سيضعها في خانة النظام السوري، وتنظيم الدولة، وقوات ال pkk الانفصالية، بالنسبة للشعب السوري، هذا إن تناسينا أن هناك قسم من الهيئة كان يتبع سابقا لجبهة النصرة، واعترض على قرار فك ارتباطها بالقاعدة، وظل مصرا على تبعيته لها، ودخل بمصادمات مع قيادة فتح الشام المتمثلة بالجولاني، واليوم يعتمد على ما يسميه " حياد الهيئة عن المنهج الصحيح " ، ليحشد أنصاره حتى يعيد مبايعة القاعدة، بتوجيه من المنظر السلفي الجهادي أبو محمد المقدسي، وبمباركة أيمن الظواهري زعيم التنظيم، وزعامة حمزة بن أسامة بن لادن، الذي أشيع أنه وصل سوريا عبر العراق قادما من إيران.

حاولت الهيئة مؤخرا أن تخرج من هذه الاحتمالات عبر الاستعانة بتنظيم الدولة، لكن التنظيم نكث بعهوده، وغدر بعناصر الهيئة بعد أن أمنوا عناصره، وسيطروا على مساحات وقرى بمنطقة الرهيجان في البادية، جنوب شرق حماة، ما يدل على أن تنظيم الدولة لن يقبل إطلاقا التعاون مع الهيئة الذي يعتبرها مرتدة، وقتال المرتد عند التنظيم، أولى من قتال الكافر الأصلي، حسب أدبياته.

عملية تطويع فصائل المعارضة السورية من قبل المخابرات التركية تعتبر الأعقد والأضخم لها في الملف السوري من بداية الثورة السورية، وقد بدأت من بعد إفشال الإنقلاب، وكانت باكورتها عملية درع الفرات، التي فيها التقاء مصالح كبير بين تركيا كدولة، وبين الثورة السورية، ثم تفكيك أحرار الشام، وقد نرى في الأيام القادمة عملية مماثلة لدرع الفرات ضد الهيئة، لإكمال سيطرة الجيش الحر المدعوم تركيا على إدلب، بعد استنفاد تركيا للخيارات السلمية مع الهيئة، والتي تضمن تحقيق مصلحتها بأقل خسائر ممكنة، ويتوقع أن تبدأ بعد استكمال تركيا لإنشاء قاعدة عسكرية تركية فوق جبل بركات بريف حلب الغربي، والمطل على منطقة عفرين التي يسيطر عليها حزب ال pkk، وستكون المرحلة التالية السيطرة على المعابر والشريط الحدودي، ثم التوجه نحو العمق ( مدينة إدلب ).

الهدف التركي أصبح واضحا، وهو حل كل الفصائل السورية ذات الأيديولجيات والمخططات الخاصة ( الهيئة، الأحرار، الشامية، الزنكي ) بغض النظر عن ماهية هذه الأيديلوجيات والأهداف، لأنها أثبتت عجزا عن التوحد، وتحقيق المراد من وجودها، وعلى أنقاضها سيقوم مشروع جديد.

جاد الحق

تلجرام telegram.me/jadalhaqarticles

فيسبوك https://www.facebook.com/jadalhaqarticles/

المدونة http://jadalhaqarticles.blogspot.com/?m=1

تويتر https://twitter.com/freetalker2017?s=09

هناك 5 تعليقات: