31‏/03‏/2020

كورونا والجهل المبطّن

يبدو أن الكورونا نجح في سلب المتنبي لقب "مالئ الدنيا وشاغل الناس" بعد "التريندينغ" الذي حققه بجهوده الشخصية كفيروس، أو بجهود من صنعوه مخبريا ونشروه حسب رأي أصحاب نظرية المؤامرة.

ورغم الهالة الخطرة التي أحاطت بالفيروس، إلا أني لا أملك نفسي أحيانا من التبسم ببعض المواقف التي كان سببا فيها...

بداية أخبار انتشاره في الصين اجتاحت مواقع التواصل موجة من الشماتة، لأن أصحابها اعتبروا الفيروس عقابا من الله للصين على إجرامها بحق الأويغور، وبعد أنباء وصوله وتفشيه بإيران وموت عدد من رجال نظامها فيه تحولت الشماتة لفرح واستبشار، حيث اعتبر هذا الفيروس كشخصية "زورو" نصير المظلومين والمستضعفين.

ثم اقترب الفيروس منا...
وحينها بدأ مهرجان استقباله العجيب!!
فجأة أصبح الجميع من حولي رؤساء أجهزة استخبارات عالمية، أو باحثين بعلم الأحياء والأدوية، أو أطباء متخصصين، أو خبراء بالصحة المجتمعية والحرب البيولوجية!!!
فقط أنا بقيت كما أنا، مواطنا بسيطا عاديا يستمع لتحليلات متخصصين، كان يظنهم قبل يوم أناسا عاديين مثله.

حرب بيولوجية، عقاب من الله، كذبة إعلامية، وباء خطير، إنفلونزا عادية، غرغرة بماء وملح، شرب يانسون، لا يصيب المسلمين إطلاقا، أخطر إنفلونزا من مئة عام...
تحليلات وعلاجات من أقصى الشرق لأقصى الغرب طفت فجأة على السطح، والمثير للعجب أن أقل من تكلم بهذا الموضوع، وتردد بالمسارعة بإبداء رأيه فيه هم المختصون الحقيقيون!!
لأن المتخصص يعلم أن كلمته مسؤولية، وهي محسوبة عليه في الدنيا والآخرة، وقبل أن ينطق بشيء عليه أن يدرسه دراسة مستوفية، ويفقه تماما كل ما يتعلق به، ويستشير غيره من أرباب التخصصات قبل أن يصدر حكمه.

عرّى الكورونا جانب الجهل المبطن فينا، الذي هو أخطر من الجهل العادي وأشد عمقا منه، لأننا نرفض الاعتراف به، ونغطيه بستار من الحذلقة والتمثيل والكلام المتهافت، ولولا هذا الجهل المبطن كيف سنسمع من أناس لا يجيدون كتابة منشور فيسبوك دون أخطاء لغوية ونحوية هذا القدر من التحليلات العبقرية، والعلاجات السحرية، لكورونا الذي ركّع أكثر الأنظمة قوة؟

من أكثر الناس الذين تصدروا مؤخرا للإفتاء بنازلة #كورونا هم الإعلاميون والناشطون، الذين برروا نشرهم لجهلهم المبطن بذريعة توعية المجتمع والحرص عليه، متناسين أن توعية المجتمع ليس عملهم وغير مطلوب منهم، بل هو عمل المتخصصين حسب كل مجال، بينما هم عليهم تسليط الضوء على أولئك المتخصصين، وتسهيل وصول كلامهم للجمهور، أما تسجيل ما يسمى بفيديوهات توعوية صحية من أشخاص لا يملكون شهادة ثانوية، يهرفون فيها بما لا يعرفون فهو جريمة بحق أنفسهم بالدرجة الأولى ثم بحق المجتمع!!!
ولو أنهم يملكون أدنى تقدير لذواتهم، أو للمجتمع الذي يظنون أنه بحاجة لتوعيتهم من كورونا، لآثروا الصمت وإفساح المجال لأهل الاختصاص.

ثم تأتي دعوات البقاء بالمنازل لنفس الشريحة من الأطباء والعلماء الجدد، وهم أنفسهم يقضون أوقاتهم خارج منازلهم يصورون وينظمون "النشاطات التوعوية" ، وحجتهم جاهزة وهي خدمة المجتمع، ونقل الصورة الحقيقية و... إلخ

ومن قال أن العامل اليومي الذي يبيع صحته بليرات معدودة يطعم فيها أبناءه خبزا ليعيشوا فقط، وتطالبونه أنتم ببقائه بمنزله دون إيجاد وسيلة يطعم أبناءه فيها لا يخدم المجتمع مثلكم بل وأكثر؟

من قال أن صاحب المتجر، أو البسطة، أو الصنعة الذي يكد طوال الشهر ليجني بضع ليرات يدفع أغلبها آجارا لمنزلٍ متهاوٍ يستره وأسرته بعد تهجيره من بلده على يد عصابات الأسد لا يخدم المجتمع مثلكم وأكثر؟؟

استيراد إجراءات الدول المتقدمة المستقرة في مكافحة الفيروس، ثم الرغبة باستنساخها حرفيا على مجتمعنا المنكوب نوع آخر من أنواع الجهل المبطن.

لا أقول أني مع ترك الناس بدون وقاية أو توعية ليلاقوا مصيرهم بحجة الوضع الكارثي، ولست طبعا من أنصار نظرية المؤامرة الفيروسية، ولكن لنهدأ قليلا، ونفسح المجال للخبراء، والعاملين، ونفكر معهم بحلول تناسب خصوصية مجتمعنا.

ولا يفوتني التعريج على أصحاب جهل مبطن آخر من المتنطعين الذين يصوّرون الفيروس أنه ابتلاء محض من الله وقع بسبب الذنوب وترفعه فقط التوبة، ولا يجب معه إغلاق المساجد، بل جعلوا قضية إغلاق المساجد مادة خصبة للمزاودة، وأحدهم إن كان يصلي غير الجمعة، ففي بطنه من الدم والمال والعرض الحرام ما الله به عليم...

وأيضا أنوّه أني لا أنكر أن الفيروس بتقدير الله، وآية من آياته، وأن التوبة ضرورية في كل زمان، لكن هذا لا يعفينا من مواجهة هذا القدر أو الابتلاء بما تقتضيه الشريعة السمحاء، والعقل السليم، وإلا كان ما هدانا الله إياه من شرع وعقل حجة علينا لا لنا !.

لكورونا جانب مشرق، فيكفي أنه فضح الكثير من مستور جهل البعض، وأهدانا عطلة يحتاجها الكثير نفسيا وجسديا، وذكرنا بالله وقدرته وضعف الإنسان مهما طغى على مواجهة أضعف المخلوقات، ليس ذلك فحسب، بل كان سببا في تخفيف حدة التلوث بالكوكب، نتيجة ما فرضه من إقامة جبرية علينا، لينقذ أعدادا أكبر ممن تسبب بوفاتهم، كانوا يقضون نتيجة التلوث وأمراضه، والخبر نشره موقع الجزيرة وغيره.

شكرا كورونا، أرجو ألا تستمر زيارتك للبشرية أطول....


داعش الموجة الثانية

داعش الموجة الثانية

رغم التعثر الذي واجهه الربيع العربي بسبب قوى الثورة المضادة، إلا أنها عجزت تماما عن إعادة العجلة للوراء لما قبل سنة 2011 ، حتى بالمبالغ والجهود الضخمة التي بذلتها، ورغم التضحية بكثير من الأقنعة والشخصيات والمؤسسات المستخدَمَة كغطاء تمويه وخداع للشعوب، ومع ذلك كان الجمود الحركي للربيع العربي لا يتناسب مع ما تم بذله من جهود للقضاء عليه من قبل قوى الثورة المضادة، وبنفس الوقت لا ينسحب على حالة الوعي الفكري والإعلامي المستمرة التي تعيشها الشعوب العربية، خاصة الثائرة منها.

لهذا التعثر الحركي أسباب كثيرة، أهمها راكبو موجة الثورات، سواء أشخاص، أو دول، أو تنظيمات، وأبرز ما يميزهم هي حالة الاستعمال المتعدد، قد يكون بنفس النكهة مع زيادة تركيز، أو بنكهة ثانية، وربما معاكسة، لكن تبقى قاعدة القابلية للتدوير نفسها. وبتخصيص الكلام عن الحالة السورية نجد أن التراجع العسكري للثورة، وانحيازها عن مناطق كثيرة، ومصادرة قرارها العسكري لصالح تركيا، أجبرها على تركيز جهودها على مناحي أخرى مهمة، سوى العسكرة التي انصبت كل الجهود والآمال عليها في الفترة السابقة، فصرنا نسمع عن جهود تجميع للسوريين في أحزاب سياسية، ومنظمات مجتمع مدني، ترمم تَرِكَة العسكرة، وتعيد صياغتها بما يضمن رشاد البندقية، خاصة بعد يأس الثوار من استلامهم زمام المبادرة العسكرية من جديد، بسبب تفكيك تنظيم "هتش" لقوى الثورة، وحلّه لعراها الوثيقة في المناطق التي يحتلها، مع زيادة الهمجية الروسية في المواجهة. وفي الوقت الذي كانت الأضواء فيه مسلّطة على ما يحصل بغرب سوريا المنكوب، والمنصات الإعلامية مركزة على مصير اتفاقاته، كانت الأحداث الأخطر تسري بهدوء شرقها....

فالنهاية المفاجئة المزعومة لتنظيم داعش شرق سوريا على يد قسد، واستسلام الآلاف من مقاتليه، بعد إخلاء عشرات الأمراء والأفراد منه بمروحيات التحالف، ثم انحسار من تبقى لبؤر معزولة بالصحراء، وتواتر أنباء بين الحين والآخر عن عمليات لها في بادية سوريا، ثم العبور الغامض لقائده من مناطق قسد، إلى سيطرة الجيش الوطني، فإدلب، ليلقى مصيره على يد الأميركيين كنهاية درامية لمرحلة سابقة، كل تلك الأحداث تدل أن التنظيم في مرحلة إعادة التدوير بانتظار بعث جديد، تماما كحال الوحش في الأفلام الذي يظن المشاهدون أنه قُتِل لنُفاجأ بآخر مشهد أن المخرج تركه حيا، وهناك جزء ثانٍ لبعثه الجديد...

ذكرنا أن الثورة بعد صدمتها العسكرية، ودخول تركيا إلى جانبها على الأرض بشكل مباشر دون رضا إقليمي أو دولي، كانت قد انكفأت على نفسها لإصلاح شأنها الداخلي، ومحاولة ترميم النقص في بنيتها، وتصويب أخطاء مسيرتها، فما الذي يمكن أن يحرق مرحلة المراجعة الذاتية الثورية المهمة هذه سوى إعادة فزاعة داعش من جديد للواجهة؟!

الثورة اليوم بين تطرفين، أسيرة قوى تتناهبها على طرفي نقيض، فأقصى اليمين تنظيمات غلو وتكفير، وأقصى اليسار بعض الفصائل المسيئة المهلهَلَة البنية المتسترة باسم الجيش الحر. وجود كل طرف من الاثنين هو سبب في تغذية وجود الطرف الآخر، فكلاهما تطرف مذموم لا يمثل أخلاق الثورة السورية وأهدافها، وكلاهما يمثل بيئة خصبة لنمو بذرة الدعشنة، لأن التكفيريين عمود الدواعش الفقري لا يخرجون، وتروج أطروحاتهم، إلا على حين فرقة من الناس كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن المسيئين وردة الفعل الناتجة عن أفعالهم، ودعاية قتالهم، أكثر ما يعتمده التنظيم في الترويج لنفسه بين أبناء المحرر.

كل فترة نسمع خروج مقاتلين دواعش من أسر قسد بوساطة عشائرية، ناهيك عمن يهرّب برشاوى باهظة دون أن نسمع عنه، أو من يُيَسرّ له طريق الهروب من السجن إن لم يجد ما يدفعه، حتى بات الدواعش محل حسد على ذاك القدر السعيد في الهروب من السجون، حتى تظنهم جميعا "مايكل سكوفيلد" بالتخطيط للهروب من السجن!!!

أما موضوع سهولة تنقلهم بين المناطق والدول، وعدم كشفهم من استخبارات هذه الدول فحدث ولا حرج، تحسب أن لديهم بساط سليمان، أو طاقية الإخفاء، ولا أدل من ذلك من حادثة مقتل زعيمهم في إدلب، فكيف وصل لها قادما من العراق؟؟!!

أضف لذلك حقيقة أن داعش شركة مخابراتية مساهمة، بمعنى أن لاستخبارات كل دولة رجالا، وأجنحة في هذا التنظيم، لذلك نراه يسير بانتظام في مهمة قتل الشعوب وتدمير حركاتهم التحررية من الداخل، وإعطاء الذريعة الدولية لحرق المناطق السنية وإبادتها، لكن تختلف الأساليب حسب مصلحة كل دولة.

تركيا والثورة وحيدتان في محيط من الأعداء الإقليميين، والدوليين، وليس أفضل من إثارة أفاعي داعش عليهما، خاصة بوجود تنظيمات ترعى فكره وتوفر له البيئة الخصبة للتفريخ، وأخرى تساهم بأخطائها وسلبياتها وسوء تعاطيها مع الأمور بإعطاء المبرر الأخلاقي لأنصار التنظيم، وتوفر بنيتها الهشة غطاء جيدا له للاختراق والاستهداف وإحراز النقاط.

تخيلوا مقدار الدماء والجهود والمقدرات والأوقات التي سنبذلها من جديد في مواجهة داعش!!!
سيكون نزيفا مميتا لمخزون الثورة الهام يستهلك خيرتها من كل شيء، في وقت حساس نحاول به ترميم ما نستطيعه بالداخل، وترشيد علاقتنا بالحلفاء، وإعادة تقديم نفسنا للعالم بما يضمن مصالحنا. النظام السياسي الدولي صنف عدوّان له، يحق لكل الحكومات المشاركة فيه فعل ما تشاء بذريعة مواجهتهما، ألا وهما داعش والكورونا، وإن كانت الكورونا أصابت العالم بالشلل، واقتصاده بالانكماش، فلا شيء ينشّطه أفضل من عودة داعش للملعب....


25‏/03‏/2020

من ذكريات الثورة.... المظاهرة الأولى


قبل الثورة كانت الأحداث المميزة في حال تجميعها معاً تأخذ بأعلى تقدير 1% من حياة المواطن السوري، أما بعد الثورة أصبحت حياة المواطن السوري كلها أحداثاً مميزة، سواء سلباً أو إيجاباً.

كل قذيفة تنفجر قربك أو لم تنفجر حدث مميز، كل طلقة تصيبك أو تخطئك حدث مميز، كل اعتقال نجوت منه، أو تعرضت له، كل نزوح أو تهجير، كل لحظة تمر عليك بهذه العاصفة هي حدث مميز يمكنك من تأليف عدة كتب عنها، أو ارتقاء منصة عالمية لتقدمها محاضرات لجمهور كبير حول العالم أقصى مغامرة عاشها تعتبر عندك شيئا سخيفا لا يذكر مقارنة بزحام بنات الدهر اللواتي عشتهن.

تبقى الأوليات في الحياة أشد اللحظات تميزاً، الحب الأول، القبلة الأولى، الصوم الأول، المولود الأول، الرؤية الأولى للكعبة، أول مرة تشتري ثيابك بنفسك.....

بالنسبة لي سأخبرك عن أول مظاهرة خرجت بها في مدينتي حلب.

في نيسان من عام 2011، لا يزال الحديث عن ثورة في حلب مبكر جداً، خاصة بالقبضة الأمنية الفولاذية التي خنق النظام بها عاصمة الشمال، مع الضخ الممنهج عبر مشايخ النفاق عن فتنة القيام على الحاكم الذي تولى كباره أمثال الحوت وغيرهم، إضافة لذكريات قمع لا تزال حية من ثمانينيات القرن الماضي وهي بكامل شبابها وقواها في أذهان أبناء حلب، يتناقلونها كتراث من الآباء للأبناء.

جامع "آمنة" في حي سيف الدولة خرجت منه أولى المظاهرات آذار الماضي لنفس السنة، في وقت لما تتكون به بعد التنسيقيات، ولم يتعرف به الثوار على أداة تواصل تجمعهم، لذلك أصبح الجامع المكان الرمزي المعتمد من قبل ثوار مبتدئين لا يعرفون بعد طريقة للتواصل بينهم للخروج في المظاهرات.

باختصار أصبح الجامع ملاذاً للدراويش الذين يريدون اختبار الحرية للمرة الأولى، كحالي تماماً.

ذهبت للصلاة بوقت مبكر لبعد منزلي عن مكان الجامع، ومعي أحد أصدقائي، كان الرعب سيد الموقف، كنت وقتها أصارع أشد مخاوفي، ألا وهي فوبيا المخابرات السورية، مجرد ذكر كلمة المخابرات حينها كانت تحول أعتى الرجال من ذوي الشوارب والعضلات لأطفال صغار يبولون على أنفسهم من الخوف، إذاً كيف سيكون حالي وأنا الشاب الجامعي النحيف الهزيل، الذي لم يسل دماً بحياته، ولا رأى سلاحاً، ويمرض إن اغبّر حذاؤه.

كنا وصديقي غارقين بدوامة نفسية ممزقة، ما بين التعطش لمستقبل أفضل، والرغبة بتقليد نموذج الشاب المصري أو التونسي أو الليبي الثائر الواعي المقدام، مع غضب شديد لما حصل في درعا وغيرها، وموروث حقد دفين عما فعله النظام في مدينتنا وأهلنا سابقاً، وبين قصص كابوسية لأناس زاروا معتقلات النظام وأفرعه الأمنية، خرجوا منها إما جثثاً، أو محطمين نفسياً، أو بإعاقات جسدية دائمة، أو شيوخاً بلغوا من الكبر عتياً في أفظع مسالخ سمعت بها البشرية.

نزلنا الحافلة بأقدام رخوة لا تحمل أجسادنا، ورؤوس مخدرة من الرعب، وقلوب كمحركات سيارات سباق الفورمولا 1، تضخ الدم الممتزج بالأدرينالين بشكل جنوني، تتنازعها رغبة التحرر والكرامة، ورهبة سطوة الجلاد.

الطريق من الحافلة للمسجد يأخذ عادة خمس دقائق، بينما معنا احتاج 25 دقيقة، فالتردد والحذر أجبرانا على إبطاء سرعتنا، ثم فحص كل زاوية، وكل حجر من الشارع، مع تصفح وجوه الناس فيه، وكانت أغلب تلك الوجوه تشعرك أنك في السجن المركزي، تحديداً طابق أصحاب جنايات الكسر والخلع، والاغتصاب، والقتل، والمخدرات.

فهؤلاء هم الشبيحة الذين نسمع عنهم، ونشاهدهم في الصور والمقاطع المرئية.
تذكرت وقتها كل آيات القرآن الكريم عن الفجار، والأشرار، والمجرمين أصحاب النار.
طاقم تمثيلي كامل وجاهز ليأخذ دور مشركي مكة، ومنافقي المدينة، ويهود خيبر، في أي عمل درامي عن فترة ظهور الإسلام.

يتخلل الشبيحة سيارات وعناصر المخابرات، وهم أقرب لشخصية عنصر المخابرات الذي يظهر في مسلسل بقعة ضوء بأجزائه الأولى، تحديداً الممثل عبد المنعم عمايري في لوحة حدث في السينما، نفس البلاهة، والذوق الشنيع في اختيار الملابس وتسريحات الشعر المثيرة للغثيان، والحقد على المجتمع، مع نظرات إجرامية سادية متوحشة.

آلاف الشبيحة وعناصر المخابرات، لإحاطة مئات المصلين، الذين قد يخرج من بينهم عشرات المتظاهرين.

 

دخلنا المسجد لنرى عشرات الشبان من ذوي الهيئات، وفي مثل عمرنا، ومن ثيابهم، وارتباكهم عرفنا أنهم يتعرفون على جامع "آمنة" للمرة الأولى، ولنفس الغاية التي جئنا بها، تلاقي الأعين بيننا وبينهم بعث فينا الطمأنينة، فعلى الأقل لسنا الاستشهاديين الوحيدين هنا!!

ارتقى الرفيق الشيخ منبر الخطابة، ليخطب فينا خطبة عصماء عن السلام، والبعد عن الفتن، ( طبعاً السلام الذي يقصده هو الاستسلام لإجرام النظام، والفتن هي الثورة عليه ) ثم ختم خطبته الرنانة بدعوات تفيض نفاقاً وتشبيحاً لسيده الرئيس، ومما أسعدني أن صوت "آمين" في تلك الدعوات كاد أن يكون صامتاً، برسالة مبطنة من الجماهير للسلطة.

دخلنا الصلاة وأنا في قمة توتري وانفعالي، قلبي أصبح فارغاً كفؤاد أم موسى، ولولا أن ربط الله عليه وثبتني لخررت مكباً على وجهي من شدة الخوف من المواجهة القادمة.

في القعود الأخير دعوت الله ألا تنتهي الصلاة، أو تقوم الساعة، أو على الأقل يحصل زلزال أو بركان، أو أي كارثة طبيعية تشغل الناس وتعطيني مبرراً محترماً للهرب والعودة لمنزلي محتفظاً بماء وجهي.

السلام عليكم ورحمة الله ، السلام عليكم ورحمة الله... هكذا فُضَّت الصلاة بكل بساطة ويسر دون أي شيء يؤخرها أو يعكر صفوها، ودون أي شيء خوارقي ينقذني من الهول القادم.
نظرت لصديقي فازداد رعبي، فوجهه كان كمن انتهى آنفاً من تغسيل ميت لأول مرة، لذلك من الدروس التي استفدتها مبكراً في الثورة هي ألا تأخذ معك من هو مثلك فتزداد هلعاً، إما أن تذهب مع من هو أكثر خبرة منك لتطمئن أنك مع خبير، أو مع من هو أقل خبرة منك لتستعرض عضلاتك عليه وتشعر بثقة أنك أنت الخبير، المهم لا تذهب مع ساذج مثلك فيزيد رعبك.

انقسم الناس داخل المسجد وخارجه لثلاث فرق، الفرقة الأكبر هي الشبيحة وعناصر المخابرات، بوجوههم الشيطانية المقززة، ترى الحقد والإجرام يقطر من ملامحهم، وفرقة أقل منها هي الجمهور الحيادي، والذي يضم طيفاً واسعاً من الأفكار، والتوجهات، يجمعهم الجبن وعدم الاستعداد للتضحية من أجل أفكارهم، نظراتهم حائرة، أشبه بنظرات قطيع مسالم من الخراف، والفرقة الثالثة وهي الأقل هم المتظاهرون، وغالبيتهم الساحقة من الشباب، هندامهم يدل على أن أكثرهم من الطبقة المتوسطة، أو الغنية، بإمكانك بسهولة أن تلحظ أن نسبة كبيرة منهم جامعيون، ترى نظرات التحدي والتوتر في أعينهم، فهم يقفون الآن على البرزخ بين السلامة والعطب، بين رطوبة زنزانة فرع المخابرات، ودفء سرير المنزل، بين الحرية والعبودية.

بدأ المتظاهرون بترديد حسبنا الله ونعم الوكيل بصوت متحفز آخذ بالارتفاع، كأن الغاية منها تسخين العزائم، وتحضير الهمم، واستجماع الإيمان بعدالة القضية، وطمأنة أنفسهم على ما هي مقبلة عليه، وفي مثل هذا الموقف تشعر أن حسبنا الله ونعم الوكيل كأنها نزلت الآن { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل }.

آلاف الشبيحة تتلمظ كالكلاب المسعورة لتنهش لحم هؤلاء الفتيان الذين تجرؤوا وتمردوا عن القطيع.

ثم "تكبير"..... خرجت مدوية من أحد الشباب كالصافرة التي تعلن بدء المباراة
تجاوبنا معه وصرخنا الله أكبر... ومع هذه الصرخة نكون قد دخلنا طريق اللاعودة، وحكمنا على أنفسنا بالإعدام وفقاً لقانون الإجرام.

يا الله على التكبيرة الأولى في المظاهرة الأولى...!!!! زُلزِلَ كياني!!
شعرت أن شخصاً آخر أكثر قوة وثقة قد استلم زمام قيادة نفسي عني، بينما أنا تنحيت جانباً أراقب الأحداث.

الله أكبر... الله أكبر...
ومع كل تكبيرة تعلو الأصوات أكثر، وترتص الأكتاف أكثر، ويتشجع المتردد أكثر.

كنا حوالي المئة وخمسين متظاهراً، تكتلنا سوياً واقتحمنا أول طوق للشبيحة كان متواجداً على باب المسجد ليمنعنا من الخروج، لكن هذا الانتصار لم يدم طويلاً، فسرعان ما تم الهجوم المعاكس علينا من مئات الشبيحة المسلحين بالسكاكين والشنتيانات وأكثرهم إنسانية كان يحمل عصاً.

تم قمع المظاهرة بوقت قياسي، مع بضعة معتقلين وجرحى، وبفضل الله كنت محظوظاً بأن أخرج سالماً، تواصلت مع صديقي عبر المحمول بعد أن تفرقنا لحظة الهجوم، كان أيضاً محظوظاً مثلي، وعدنا ماشيين لبيوتنا كل تلك المسافة كأننا سكارى ومذهولان بالمغامرة التي عشناها، والجريمة التي شهدناها، مفكرين هل ارتشاف خمر الحرية والكرامة للحظات ثمنه هذا الإجرام الدموي؟

هل تستحق الكرامة والحرية هذا الثمن؟

السؤال ليس لنا فقط بل لكل الشعب السوري، ومن تسع سنوات مرت نستطيع أن نسبر إجابة فئات هذا الشعب الذي ما زال لليوم يغني للحرية ويلعن الطاغوت، ويقاوم المخرز المسموم بعينه الشجاعة، ويضمد جراحه بتراب وطنه الطاهر كطهر دماء الشهداء التي سقته، وعما قريب سيسقط الصنم، ويُكسَر القيد، ويخرّ عرش الظالم، سنة الله في نصر الحق ولو بعد حين.