27‏/10‏/2019

تركيا والثورة وتحالف الضعفاء



من الحكمة في عالم الصراع السياسي معرفة حجمك الحقيقي، وحجم شريكك، ومدى قوتكما في غابة التدافع الدولي الشرس.

ما نعانيه اليوم هو قصور تام في معرفة مدى قوتنا كثورة، ومقدار ما نملك للآن من أوراق رابحة، بمقابل تضخم موهوم في تقديرنا لقوة الشريك التركي وحضوره بين الكبار كروسيا وأميركا، وهذا ما يصعّب حركة الشريك التركي ويثقلها، ناهيك عن مشاكله الداخلية الخاصة والعراقيل التي توضع له بشكل مقصود.

غياب القيادات الواعية في الثورة صاحبة العقلية النفعية العامة، وشجاعة الإقدام، التي تحسن تنظيم الجماهير، واستغلال الكوادر والجهود المبعثرة، ومخاطبة العالم بما يفهمه، مع وضع رؤية تخطيطية شاملة بعيدة المدى هو ما نحتاجه، وهذا أمر ليس صعبا، ولدينا مقوماته، لكننا نفقد الثقة بأنفسنا لكثرة الشدائد والضغوط التي وضعنا بها.

إيهام الناس أن تركيا قوة دولية لها ثقل موازي لأميركا وروسيا تدليس كبير عليهم وإساءة مقصودة لها.

أيضا مقارنة تركيا المسالمة، التي لا تتحرك قبل ضمان الأضواء الخضراء من أميركا وروسيا بإيران العقائدية المشاكسة صاحبة البرنامج النووي، التي لها أذرع عسكرية مخلصة ومدربة في كل محيطها الإقليمي تلعب من خلالها، وتقرصن على الدول في مضيق هرمز وأسواق النفط ليس صائبا.

على تركيا أن تعي أن التقليل من خطورة النظام السوري على داخلها، والإصرار على تحييده واعتباره عدوا ثانويا قصور نظر كبير، لأن النظام السوري يملك أوراق ضغط خطيرة تهدد الأمن القومي التركي داخل تركيا، أكثر مما تملك تركيا داخله، فمثلا النظام السوري نظام طائفي بامتياز، واستطاع استمالة أبناء طائفته في المنطقة من غير السوريين في تركيا ولبنان، وشكل منهم جماعات ضاغطة لمصلحته ضمن مجتمعاتهم، مع عدم تناسينا وجود تيار سياسي تركي معارض لتوجه العدالة والتنمية، تزداد قوته يوما بعد يوم في الداخل التركي، ويرى النظام السوري جزء من حل المشكلة السورية وليس سببا لها، ولا ضير عنده من إعادة العلاقات معه، والنظام يعرف تماما كيف يستثمر به، ولن أتطرق لدور النظام السوري في صنع ودعم حزب ال pkk الخطر الأكبر على الأمن القومي التركي لأن الأمر أصبح مملا لكثرة تكراره.

داخليا علينا أن نحسن نظرتنا لأنفسنا وقد صمدنا ثمان سنوات ونحن شعب أعزل في وجه أعتى الهجمات العسكرية، وأشرس المجازر الوحشية، وكسرنا ثلاث أنظمة منافسة لتركيا ومعادية لها وقطعنا أذرعها الإجرامية بمعارك برية لا يوجد بها غطاء جوي يحمينا فيها، فكيف نظن أننا لسنا أهلا لنكون أصحاب كلمة في مستقبلنا ومصيرنا، وحصرا يجب أن نكون ذنبا لغيرنا؟؟
هذا قمة الإجحاف والمهزلة.

تركيا شريك استراتيجي مهم للثورة، علينا الوقوف معه للنهاية، وأهم خدمة نقدمها لها أن نعي أننا بتسليم أمرنا لغير الأكفاء سياسيا وعسكريا ومدنيا قد صرنا حملا كريها يثقلها، ثم علينا أن نعرف حجمها ومقدار قوتها بين باقي اللاعبين فلا نكلفها فوق طاقتها، ولا نرفع معها سقف توقعاتنا ومطالبنا.

تركيا تحتاج الثورة، كما الثورة تحتاجها بل وربما أكثر، وعلينا وعليها مراجعة تفاصيل الشراكة التي فرضتها التقاء مصالحنا وأمور أخرى، ومحاولة تصحيح صورة التعاون والتنسيق، وذلك لا يتم إلا بتغيير أغلب من اعتمدتهم تركيا في إدارة الملف السوري من سوريين وأتراك، مع الاستفادة من الأخطاء والدروس السابقة، فالاستحقاقات القادمة مثل #منبج و #شرق_الفرات، ليست ك #درع_الفرات و #غصن_الزيتون ، في ظل استمرار تهديدات #إدلب و #عفرين .

علينا أن نتذكر دائما أن ال تنظيم ال pkk الإرهابي عدو ثانوي لنا وللأتراك، بينما عداوتنا الرئيسية هي مع النظام الطائفي المجرم الذي صنعه وأحسن استغلاله، لذلك يجب أن ندخل بقوة بشرق الفرات مع أخذنا ضمانات ملموسة وقوية من الشريك التركي بعدم تكرار خطأ #عفرين وحماية أهلنا المدنيين من التجاوزات، وحماية #إدلب وتحرير أراضينا المغتصبة في #تل_رفعت وماحولها، و #منبج و #تادف لأهمية هذه المناطق بالنسبة للشمال المحرر.

لم يبقَ ورقة ضغط بيد تنظيم ال pkk الإرهابي سوى إطلاق الدواعش الأسرى لديه ليعيثوا فسادا بالمحرر، لذلك علينا من الآن الحذر من ذلك، علما أن الدواعش المحررين سيستغلون روابط العصبيات الجاهلية المناطقية والفصائلية والعشائرية، وضعاف النفوس المرتشين من القيادات، للحصول على غطاء يحميهم ويسهل عملهم.

معركة #نبع_السلام أفضل صيغة تقاطع مصالح لنا مع تركيا، علينا أن نناور بها ونضع كل جهدنا لتحصيل أكبر مكاسب سياسية وعسكرية ممكنة، والمنطقة الشرقية هي أهم منطقة بسوريا جيوسياسيا، لذلك تتنافس عليها الدول لتضع قدما فيها، وعلى #الجيش_الوطني أن يثبت لشعبه ثم للشريك التركي أنه أهل للثقة، وركيزة للاستقرار، فلا يزال كابوس المفسدين والمسيئين ينغّص حلم ثورتنا الوردي.

معتز ناصر ( جاد الحق )


بين ثورة "كرميلا السكسي ليدي" وثورة "جنة يا وطنا"



قبل الثورة كنت أخجل أني من سوريا، وأشعر بالدونية والصغر مطلقا زفرات حسرة وألم وأنا أقارن بلدي ومجتمعي مع بلدان ومجتمعات أخرى.

بعد الثورة السورية المباركة، تغير هذا الشعور للنقيض، والفضل بعد الله هو لتلك الثورة وذاك الشعب البطل الذي قام بها.

تلك الثورة التي تم التآمر عليها من جميع الحكومات الطاغوتية الراغبة أن تربي شعوبها فينا، لكن صمود هذا الشعب المبارك في هذا البلد المبارك، جعل السحر ينقلب على السحرة حتى أُلقوا ساجدين صاغرين، وأصبحت الشعوب المتمردة هي من تربي الحكومات المستبدة فينا، وصار الشعب السوري الثائر أيقونة للشعوب المناضلة، وقدوة للشعوب المتحررة، حتى رأينا ألحان القاشوش تتخطى الحدود، ورغم السيل المستمر تسع سنين من المصائب المنوعة بقي هذا الشعب المبارك الأبي صابرا محتسبا متمسكا بقيمه ومبادئ ثورته.

بين ثورتين

أحترم كل تحركات الشعوب ضد ظالميها وأدعمها بشدة، إلا أني لا أستطيع كبح نفسي عن ملاحظة الفرق بين شعب خرجت ثورته من مساجده وحاراته صادحة حناجره بالتكبير وهتافات الحرية والكرامة، مواجها أحط نظام سياسي عرفه البشر، وأشده طاغوتية وإجراما، وشعب آخر خرج لأسباب اقتصادية بحتة _ وهذا مطلب حق طبعا _ وكانت معظم مظاهراته مسرحا للرقص والغناء والفكاهة.

أدرك تماما الاختلافات الثقافية والطائفية بين الشعبين، وخصوصية كل بلد، والأسباب الدافعة للثورة عند كليهما، لكن أسفار المجد المضيئة، وصفحات التاريخ الخالدة تسطرها الدماء والدموع، ويرتلها الضحايا بالأنين والنحيب، وهذا ما يعطيها قدسية البقاء والإلهام للأجيال اللاحقة.

يحز في نفسي كثيرا ما سمعته وقرأته لبعض الثوار أن ثورتنا "فاشلة" وثورة غيرنا أنجح، مستدلا بمظاهرها الطريفة والمطربة التي انتشرت إعلاميا بشكل أراه مقصودا لتنميط حراك الشعب واختصاره بصور معينة، وهذا ما دفعني لكتابة هذا المقال.

لا شك أن ثورتنا لو كانت غناء ورقصا وطربا كانت أريح وأبهج، لكن هل تُصنَع العظمة إلا من الألم؟؟
هل يتمايز النبلاء إلا بالبلاء؟

حقيقة الصراع

كلنا ينزع للمثالية، وترتاح نفسه للسهل، لكن قضية بخطورة ثورة شعب مظلوم على نظام سياسي ظالم ليست إطلاقا أمرا مثاليا، ولا تسلية سهلة، والتاريخ هو الحكم الفيصل بين خصمي كلامي، وعلينا كشعوب عربية أن ندرك يقينا أن هذه الأنظمة بأدواتها المختلفة وأولها الجيوش ليست من جلدتنا، بل هي أشد تنكيلا بنا من دول الاحتلال الأجنبي التي خرجت وتركتها تجرم فينا نيابة عنها وتسومنا سوء العذاب، وتبقينا بشكل غير مباشر ذنبا للاحتلال الراحل الباقي، ومزرعة له، والصور التي تخرج في أول الثورات عن تعاطف الجيش مع ثورة الشعب، ليست إلا خدعة ستنكشف قريبا، وبدأت فعلا بالانكشاف لشعب لبنان الثائر.

لماذا يحاربون ثورات الشعوب؟

محرم علينا حرمة الأم على ابنها، والأخ على أخته أن نختار من يحكمنا، ولو اتخذنا كل قيمنا الدينية والمجتمعية ظهريا، واتبعنا ديمقراطية الغرب وقيمه فلسفة وممارسة شبرا بشبر، لأن الشعب إن ترك حرا لن يختار إلا من يحقق مصلحته، وتحقيق مصلحة الشعب يعني لزاما محاربة مصلحة الاحتلال، فهاتان المصلحتان نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، ولا بد أن تغلب إحداهما الأخرى وتقهرها، ولنا في الشهيد بإذن الله مرسي عبرة، وأظن أن تعاد الكرة في تونس، وبرعاية من أفاعي دول الظلام، وعقارب الثورات المضادة، وفلول المطرودين.

ثمن الحرية الباهظ لا بد من دفعه والعاقبة للصابرين

فكرة جميلة أفادني بها أستاذي وأخي الأكبر الشيخ محمد أبو النصر في نقاش بيننا أود مشاركة القرّاء بها، وهي أن الثورات العظيمة باهظة الثمن حين تشتبك أحداثها، وتتوالى أزماتها تكثر فيها لطميات الندم، والحنين لفترة "كنا عايشين" فتسمع بها كثيرا معزوفات "توبة عاللي بعيدها" و "يا ريت لا طلعنا ولا تبهدلنا" وكنا بطاغية صرنا بألف، لكن حين يأتي موسم حصادها، ويصير وقت قطاف ثمارها الشهية، وتروح السَكرَة وتأتي الفِكرَة، وقتها يدرك أبناؤها أنها تستحق ما ضحوه لأجلها، وتبدأ كلمات المديح والثناء وكتابات الإطراء والتبجيل، وهذا ما حدث في الثورة الفرنسية التي استمرت طويلا حتى تمخضت أخيرا عن جمهورية فرنسا القوية، التي لم تكن لتوجد لولا مآسي الثورة، فمن يقرأ أدبيات عصر الثورة سيجد روح التشاؤم والندم عند أغلب كتاب ذلك العصر _ باستثناء المؤمنين بفكرتها_ بسبب ما شاهدوه من كوارث وأحداث مؤلمة بها، أما من يقرأ أدبيات من أتى بعدهم في عصر الانتصار وقطف الثمار سيجد عبارات الإطراء والثناء والتفاؤل لما لمسوه من آثار إيجابية لها بعد مخاضها الموجع.

هل ما أراه من صور ثورات أخرى يجعلني أخجل من ثورتي؟

أفخر أني ابن ثورة خرجت من المساجد، وقادها شباب متوضئون، كان شعارها التكبير، وأهدافها الحرية والكرامة لكل السوريين، صاغت أمجادها دماء الشهداء، وزفرات الثكالى، ودموع الحرائر، وصبر المهجرين، ورصاص المجاهدين، وإرادة الأحرار على إكمالها حتى النصر القريب بإذن الله، وأقدر وأحترم كل شعب حر ثار لحقوقه ضد لصوصه ومجرميه، وكل شعب ثائر بحق على مستبديه سيمر بطريقنا الذي رسمناه لمن بعدنا، وإن صبر وكافح لا بد أن يقطف أخيرا ثمرة انتصاره، أما مشاهد الثورات الوردية فما هي إلا سحابة صيف عما قليل تقشّع.

معتز ناصر ( جاد الحق )