30‏/09‏/2017

ستوكهولم سيندروم

” القط بحب خناقه ” مثل شعبي معروف ، قد تدهش إذا أخبرتك أنَّ هناك اضطراب نفسي يشبه معنى هذا المثل إلى حدٍّ كبير، إنَّه متلازمة ستوكهولم، هذا الخلل النفسي يحصل مع الأشخاص الذين تعرضوا لاضطهاد و عنف و إذلال، مثل المختَطَفين، ضحايا الاغتصاب، و ضحايا التعذيب و الابتزاز، حيث يتولد شعور بالتعاطف من الضحية نحو الجلاد،.

 تاريخ هذا الاضطراب يعود إلى عام 1973 حيث قامت عصابة باحتجاز موظفي أحد البنوك في ستوكهولم عاصمة السويد، و لمدة ست أيام، و حين قامت الشرطة بتحرير الرهائن، صدمت من تعاطف الرهائن مع الخاطفين، و ليس ذاك فحسب بل حتى رفض الرهائن الشهادة في المحكمة ضد الخاطفين، و قالوا عنهم إنَّهم ودودون جدا و لطفاء!

وقام علماء النفس والسلوك بدراسة هذه الظاهرة، واختاروا لأعراضها اسم متلازمة ستوكهولم، وفسروها كالتالي:

عندما تكون الضحية تحت ضغط نفسي كبير، فإنَّها تبدأ لا إرادياً بصنع آلية نفسية للدفاع عن النفس، وذلك من خلال الاطمئنان للجاني، خاصة إذا أبدى الجاني حركة تنم عن الحنان أو الاهتمام حتى لو كانت صغيرة جداً فإنَّ الضحية يقوم بتضخيمها وتبدو له كالشيء الكبير جداً، وفي بعض الأحيان يفكر الضحية في خطورة إنقاذه، ومن الممكن أن يتأذى إذا حاول أحد مساعدته أو إنقاذه، لذا يتعلق بالجاني ويسعى لإرضائه، ويترسخ عند هذا المريض عقيدة راسخة  “أنَّ الشر الذي يعرفه خير من الخير الذي لا يعرفه”.

وهذا الكلام يفسر ظواهر كثيرة نراها في مجتمعاتنا غير مفهومة مثلا:

لماذا صمتت هذه الشعوب طويلا على فساد وقمع أنظمتها الحاكمة؟

لماذا حين قامت الثورات العربية، وقفت شرائح كبيرة من المجتمعات ضدها إمَّا تأييدا للسلطات، وإمَّا يأسا من أن يأتي من هو أصلح من الأنظمة الحالية للحكم؟

بل حتى هنالك مواقف في الثورات نفسها، وبين الثوار تثير الغرابة، فإبَّان ثورة يناير في مصر، حين خرج حسني مبارك بخطاب يدغدغ فيه مشاعر الجماهير، نسبة كبيرة من الثوار انطلت عليهم الحيلة وتركوا ميدان التحرير، لكن ما أفسد حركة مبارك هو موقعة الجمل التي ألهبت جذوة الثورة المصرية من جديد.

وفي ليبيا حين اعتقل الثوار المجرم معمر القذافي من المجاري، وبثت صور اعتقاله وإعدامه من قبلهم، كثيرون من أبناء الشعب الليبي، الذي كانت كتائب القذافي تسفك دماءهم، وتهتك أعراضهم، قد تعاطفوا مع نهايته الوخيمة، واعتبروها انتهاكا لحقوق الأسرى، وإهانة لرجل صاحب ماضي وعمر، وصاروا يتنادون بالأخلاق والتسامح، وأن يرحم الثوار عزيز قزم ذل، ناسين أو متناسين جرائم القذافي بحقهم.

وفي الثورة السورية، طالعتنا فتاوى كثيرة وكلها برعاية مخابراتية، أن ما يجري فتنة، وطاعة ولي الأمر واجبة، إضافة إلى عبارات من نوع ” هو كويس، بس يلي حواليه هنن السبب “، أو عبارة ” إذا راح هو ما رح يجينا أحسن “، وكأنَّ بشار الأسد شخصية فذة، عجز الزمان أن يأتي بشبيه له أو دونه.

هذه المظاهر كلها من علامات ودلائل الانهزام النفسي لشريحة واسعة من الشعوب العربية أمام حكوماتها، وذلك نتيجة للتربية القمعية الممنهجة التي حظيت بها الشعوب من بدايات القرن الماضي إلى الآن، وهذا يشرح لماذا أن غالبية الثوار الساحقة من فئة الشباب، وذلك لأنهم لم ينالوا نصيبهم الكافي من التربية القمعية، ولم يشهدوا أهوال مجازر حماة وحلب وجسر الشغور، أو فظائع معتقلات تدمر، والسجن الحربي، ويفسر لنا أيضا لماذا كل هذا الشبق في مجتمعاتنا المنكوبة لموضوع التغلب، واستخدام العنف والبطش كذريعة لتحقيق ما يظنه البعض غاية سامية.

استعذاب ألم الاضطهاد والاستبداد يظهر في مقولاتٍ عامة يرددها البعض، كقولهم “نحنا شعب ما بيمشي إلا بالعصاية “، ” هيك شعب ما بيلبقله أحسن “، ولذا وجدت هذه الفئات ضالتها في قيام الثورات المضادة التي أوقفت مسيرة الربيع، فزعموا أنَّ الفتن والاضطرابات التي أعقبت الثورات أثبتت صحة مسلكهم الخانع.

وهذه المشكلة تتضخم أكثر إذا ارتبطت بالبعد العقدي، كما هو الحال عند بعض المدارس الصوفية والسلفية، التي تبرر كل شيء للحاكم وتحرّم القيام ضده أو حتى التفكير بذلك.

آثار متلازمة ستوكهولم مستشرية في الشعوب العربية، لأنَّ الكثيرين لازالوا يتغنون بزمن ما قبل الثورات، حين ” كنا عايشين قبل ما تجي الحرية وتخرب بيتنا “، فمصيبة المصائب أنَّ هذه الشرائح من الناس ليست فقط غير راغبة بالتغيير، بل ترى أنَّ العيش في ظلِّ الأنظمة العميلة والقمعية هو أفضل خيار ممكن.

آن لنا الأوان بعد عشرات السنين من العيش ضمن القفص، أن نجرب العيش ولو للحظات خارجه، آن لشعبنا الأوان أن يغير طريقة تفكيره ونظره إلى الأمور ومجرياتها على الأقل من باب كسر الروتين.

آن لنا أن نحطم قيود الحكومات القمعية، وأن ننبذ شذوذ التغلب والعسف لصالح قاعدة الشورى، ونتخلص أعراض متلازمة ستوكهولم التي صارت تجري مجرى الدم فينا.

جاد الحق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق