23‏/12‏/2017

الشوفينية الثورية


مع بغضي الكبير لاستخدام مصطلحات أعجمية، واعتزازي الشديد بلغة القرآن الكريم، إلا أني أجد نفسي مضطرا لاستخدام مصطلح " الشوفينية " للتعبير عن حالة التزمت والمزاودة على الغير، التي يمارسها بعض الثوار.

تُعَرّف الشوفينية حسب الموسوعة العالمية الحرة بأنها:

" الاعتقاد المغالي، والتعصب لشيء والعنجهية في التعامل مع خلافه، وتعبر عن غياب رزانة العقل، والاستحكام في التحزب لمجموعة ينتمي إليها الشخص والتفاني في التحيز لها؛ وخاصّة عندما يقترن الاعتقاد، أو التحزب، بالحط من شأن جماعات نظيرة، والتحامل عليها، وتفيد معنى التعصب الأعمى. "

كانت طبيعة سوريا في ظل احتلال البعث غياب الوعي، وانعدام الحياة السياسية ومنظمات المجتمع المدني، مع تشجيع البعث المحتل للتفكير الغوغائي القائم على المزاودة بشعارات الممانعة، وفلسطين، والأمة العربية.

ومع كثرة استخدام مبدأ المزاودة، تولّد إقراراه في العقل الجمعي للمجتع السوري، إلى أن أتت الثورة المباركة التي غايتها إسقاط النظام بكافة رموزه، ولعل أهم رموزه قيم البعث المسمومة، ومبادئ تفكيره الهدامة، المغروزة فينا عنوة، وهي أول أركان النظام التي تحتاج الإسقاط.

هتفنا في أول الثورة هي لله هي لله لا للسلطة ولا للجاه، فهل حقا التزمنا هذا الشعار النبيل أم كنا _ من هتفه _ أول من انقلب عليه وحاربه؟

إذا كانت ثورتنا حقا لله، ونوايانا مترفعة عن السلطة وعن الجاه فما هو سبب تشرذمنا المستمر سياسيا وعسكريا ومؤسساتيا من أول الثورة ولغاية سبع سنوات بعدها؟

السبب الأساسي هو خمرة السلطة والجاه، التي أسكرت عقولنا، وسحر المكتسبات الذاتية التي جنيناها على حساب آلام شعبنا.

نعيب على بعض المتأسلمين أنهم رفعوا شعار ما جئنا إلا لنصرتكم، وحين انخدعنا بهم، وثبوا علينا ليحكمونا بالحديد والنار بحجة صيانة ثمرة الجهاد، وتحكيم الشرع، لكن لم لا نعترف بأننا فعلنا نفس الشيء، حين جعلنا ما قدمناه للثورة طوعا من أنفسنا، أو كرها بسبب الظروف، قربانا للوصول للكراسي والمناصب، وأبعدنا الأكفاء بحجة التسلق وعدم الثورية، فقط لنبقى نحن تحت عدسات الإعلام، ولِنَعُبّ من الدعم القادم للثورة الحصة الأكبر....

هذه هي الحقيقة المرة التي نغتالها يوميا بسيل من الشعارات البراقة التي نخدر بها ضمائرنا حتى نبقى نحن تحت الأضواء، وفوق الكراسي، لأننا ثوريون وقدمنا، أما فلان وعلان من الكوادر، وأصحاب الكفآت، فهم ما بين متسلق، أو خريج 2016، أو من ثوار 2015، إلى آخر تلك المزاودات المعلبة.

أليست حجة التضحية وبذل الدماء في الدفاع والصون، هي حجة كل سلطة عسكرية منقلبة على إرادة شعبها، مجابهة إياه بالحديد والنار، تحت شعار أن الجيش هو من يحمي الوطن والمواطنين، وتضحياته هي من تؤهله للحكم والسلطة؟
وبعد كل انقلاب عسكري ومصادرة لرأي الناس، وترهيبهم مخابراتيا وفكريا تحصل الكوارث.

والأقدمية فقط ليست معيارا للنجاح والشرف، فكم من ثائر بذل وقدم أول الثورة، ثم ارتد على عقبيه شبيحا، أو داعشيا، أو قسديا، وكما قيل الطريق لمن صدق، لا لمن سبق.

وللتمييز بين الثائر الحقيقي، والمتثورن النفعي، إليكم هذا المقياس.

الثائر الحقيقي صاحب قضية وهم، وحامل رسالة حق لكل الناس، ويسره أن يشاركه أهله وإخوانه في حمل رسالته، فلا تراه كالّا أو مالّا في نشرها والصبر على أذى الناس بسببها، ولا يزال يطمع في تغيير قناعة الرماديين أو المؤيديين، ليَدَعوا ما به من جهل وشر، ويحملوا معه شعلة الثورة.

أما المتثورن فتراه يُضيّق الثورة، ويُحجّر واسعها، حتى لا تكاد دائرة ثورة الشعب السوري العريضة أن تتسع إلا له ولجماعته من المنتفعين، ولو تمكن من تغيير اسم الثورة من الثورة السورية لاسمه واسم عائلته لما قصّر عن ذلك، فحاله في الثورة كحال الخوارج في الدين، لا يزال الإسلام عندهم يصغر ويتضاءل وينكمش حتى لا يكاد يسع إلا بضعة آلاف من جماعتهم.

هؤلاء المتثورنون المزاودون ظاهرهم ثوار، وباطنهم منتفعون حسّاد، يخافون زوال أو نقصان ما أكلوه من الدنيا باسم الثورة، على يد غيرهم من أصحاب الكفآت فلذلك يرمونهم بهتانا بكل نقيصة ليصرفوا الناس عنهم، ويدفعونهم إلى خارج ساحة الثورة، حتى ولو كان في خروجهم دمار لها، فما أحلى الخراب والهزيمة إن كان من يدي _ أنا الشوفيني الثوري _ المتصدر تحت الأضواء، وما أقبح البناء والنصر إن كان من يد الكفؤ المتصدر لما هو أهله وأنا قابع في الظل!

من الصفات المميزة للمتزمتين الثوريين بغضهم لأصحاب الشهادات الجامعية، لأنهم يشعرونهم بدونيتهم علميا وثقافيا، ويشكلون تهديدا لمصالحهم، وبحسب رأي الشوفينيين الثوريين، أنهم حين ضحوا بمستقبلهم وحياتهم وتركوا دراستهم وعاشوا الحصار والتشرد والقتل، كان أولئك القاعدون، من ثوار اليوم، آمنون مطمئنون يمارسون حياتهم بطبيعية، حتى تخرجوا من جامعات النظام، وحصلوا على شهادة جامعية.

وأنا أقول لهم، أخي الثائر، وعد الله أكثر من ضحى في سبيله، وهم المجاهدون، والشهداء، بالجنات والنعيم، ولم يعدهم بمنصب دنيوي، ولا حكومة، ولا وزارة، ولا غيرها، لأن الدنيا ليست دار عدل، بل هي دار ابتلاء، ولأن الآخرة هي دار الجزاء العادل والاستيفاء، ثم إنك ببداية ثورتك قلت بأنها لله وليست للسلطة ولا للجاه، فما بالك اليوم تصارع وتناطح على السلطة والجاه باسم الثورة، تفرح إن حصلت عليهما، وتأسى إن فاتك تحصيلهما!؟

وإن ساءك حصول غيرك على شهادة جامعية أو علمية، فاجعل هذا دافعا لك لتحصل بدورك على درجة علمية تعزز بها أقدميتك الثورية، وتخدم بها ثورتك، ولا تظن أنك رافعة الثورة، وحامي حماها، فإن تركتها لحظات انهارت وتبددت، فالثورة أكبر مني ومنك، وهي حق لكل أبنائها، حتى المغتربين منهم الذين نزاود عليهم في غربتهم، ونظهرهم بمظهر الفارين من الزحف، الذين ينتقدون أخطاءنا نحن الأبطال الصامدين على أرض الوطن.

ثم إن مرض ابنك، أو أردت إجراء عملية جراحية، هل تذهب به أو بنفسك للطبيب الأكثر خبرة وإن كان قد تخرج البارحة من جامعات النظام، أم تذهب لشاب نصف متعلم مارس التطبيب في الثورة!؟

إن ساءك دراسة غيرك في جامعات النظام، أو إقامته في مناطقه، فقدم له أفضل مما يقدمه النظام كبرهان على صدق التزامك بوعود الثورة بالحياة الأفضل للناس.

قد يدافع البعض عن تزمته الثوري أنه لحماية الثورة من أن تُخطَف، متناسيا أنه أول من خطف الثورة بحرمان أبنائها وشعبها من الأفضل، عبر حجب أصحاب الكفآت والكوادر.

الثورة لا تنجح إلا إن استطاعت تحقيق الشعارات التي ترفعها، وبنت مجتمعا أفضل من مجتمع النظام الذي ثارت عليه، وهذا يفسر سبب أن جزء كبير من الثوار تركوا الثورة، وجزء أكبر من المدنيين في المناطق المحررة فضل العيش بمناطق احتلال النظام وال pkk، بسبب الخدمات الأفضل التي تُقَدَم في تلك المناطق، ولا تكن خياليا حالما فتتوقع من جميع الناس أن تكون صحابة، تضحي بكل ما تملك في سبيل الثورة، بل كن واقعيا، وقدم للناس ما يجعلها تختار الثورة على غيرها.

بعد سبع سنوات من التشرد والقصف والتقتيل، ألا يستاهل شعبنا منا أن يشاركنا حمل السلاح للدفاع عن نفسه، ألا يستحق تمثيلا حقيقيا معبرا عنه في المجالس المحلية، ألا تليق به خدمات اجتماعية أفضل في التعليم والصحة وغيرها؟؟

أيها المتزمتون الثوريون هبوا لنا " ثورتكم " كما وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام لكافة الناس.

وسعوا مدارككم العقلية وفكروا كما الدول واقرأوا التاريخ.

أسلم خالد بن الوليد بعد عشرين سنة من بعثة الرسول، وسبعة عشر عاما من الدعوة الجهرية، وسبع سنين من الهجرة للمدينة، وكان هو سببا مباشرا في قتل أكثر من 70 من خيرة الصحابة من أصل 700 من مجموعهم، ومع ذلك سُرّ النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وأعطاه مكانته اللائقة به كقائد عسكري، ولم يعيره بماضيه.

من أسباب انتصار السلطان قطز في عين جالوت أنه راسل الأمراء المسلمين المتحالفين مع التتار ورغبهم ووعدهم وشجعهم على الانشقاق عن التتار والعودة لحضن الإسلام، وفعلا انشق قسم كبير منهم، علما أن التتار قتلوا في بغداد وحدها مليون مسلم!!!!

اعترف بول بريمر الحاكم العسكري الأمريكي في العراق أن من أخطائه قراره بحل الجيش وأجهزة الأمن العراقية أيام صدام حسين، مما جعل مئات الآلاف من منتسبي هذه الأجهزة تخسر وظائفها وتدخل في دوامة عنيفة من السخط والحقد على الأمريكان، ترجمتها على الأرض في توظيف خبراتهم العسكرية والأمنية بقتال المحتل الأمريكي، ولو احتواها بول بريمر في الدولة الجديدة لانقلب ولاء أغلب تلك العناصر له.

بل كان الدواعش في العراق ثم سوريا، أكبر مستفيد من قرار بريمر، حيث استغلوا خبرة أولئك الضباط والعسكريين البعثيين السابقين، واحتووهم تحت راية تنظيمهم، وكانوا سببا مباشرا في سيطرتهم على العراق، ثم جزء كبير من سوريا قبل أن يندحروا.

حتى النظام السوري المجرم، صحيح أنه يغدر بالكثير ممن وقع معه على مصالحة، إلا أنه أيضا يستغل الكثير منهم ممن قاتله لسنوات وقتل منه وآذاه، يستغله اليوم في قتالنا وقتلنا، مستعملا عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم في تحييد الأعداء، وإن سماها بغير اسمها، ونحلها لغير صاحبها.

فما بالنا اليوم نضيق صدرا بإخوتنا المنضمين للثورة حتى ولو تأخروا نسبيا، ونترك خبراتهم ليستغلها أعداء الثورة من النظام أو التكفيريين، أو عملاء الاستخبارات صبيان الثورة المضادة؟

طبعا لا أدعو لاستقبال كل من هب ودبّ في صفوف الثورة وتوليته المناصب، ولا أدعو للتسامح مع المجرمين بحق شعبنا، لكن أدعو لرفع شعار استخدام القوي الأمين، مع تفعيل دور المحاسبة العادلة، والرقابة الشعبية، والمؤسسية الثورية.

قد يسأل البعض وإن لم نجد قويا أمينا فمن نستخدم؟

وهذا السؤال امتحن به الخليفة العادل عمر بن الخطاب، داهية العرب المغيرة بن شعبة، فقال له أأستعمل القوي الفاجر، أم الضعيف الأمين؟

فرد المغيرة " بل القوي الفاجر، فقوته لك، وفجوره عليه، أما الضعيف الأمين، فضعفه عليك، وأمانته لك " ، وبذلك يبرز دور الرقابة الشعبية والمؤسساتية الغائبة في ثورتنا، في حماية مسار الثورة من اختطافه سواءا من أعدائه، أو من الكوادر التي لا تحمل عقيدة الثورة، فبوجود رقابة كعمر ( شخصية عمر تمثل الرقابة الثورية ) فلا خطر من استعمال صاحب الخبرة فيما يجيد ( استخدام تنفيذي ) ، وإن لم يكن ثائرا، مع عزله عن مفاصل القرارات السيادية الثورية.

أخي الثائر الشوفيني المتزمت، أقدر حرصك على ثورتك، لكن أبشرك أن ما تفعله خراب لها، وأن البلد عاجلا أم آجلا سيبنى لكن بيد غيرك من أصحاب الكفآت والكوادر، بغض النظر بصف من سيكونون، فاختر لنفسك وثورتك ما تحب، إما أن تكون جزءا فاعلا في البناء بعد الهدم عبر تشجيعك لكل الناس على الثورة، وتنازلك عما أخذت من مكتسبات باسمها لصالح من يستحقها، أو أن تظل جزءا من عملية الهدم يتم استبعاده في البناء، لتجد زاوية في مقهى منزوٍ، تجلس بها تدخن وتلعب الطاولة، وتلعن من تسميهم المتسلقين حسدا منك حين يظهرون نجاحهم.

سلمنا رقبتنا لبائع الخضروات، والقصاب، وعامل البناء، والنجار، والأُمّي، وخريج دورات التكفير، وتلميذ المعتقلات، فتجرعنا الزقوم على أيديهم سبع سنوات، أفلم نقتنع بعد بتجربة الضابط، والطبيب، والمهندس، والمدرس، والسياسي، والاقتصادي، وخبير علم الاجتماع، والإدارة؟؟؟

جاد الحق



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق