29‏/07‏/2018

فخ اسمه الواقعية السياسية

كحال كل الدعوات المشبوهة، لا بد من أن يكون لها شعار برّاق يُخفي أهدافها الحقيقية، وأكثر دعوى تروّج اليوم هي دعوى التسليم للنظام المجرم وحلفائه، وشعار هذا التسليم " الواقعية السياسية " .

الواقعية السياسية كمفهوم مجرد أمر جميل وضروري، ويعني أن تفهم حجمك السياسي وفقا لقوتك على الأرض، وتموضعك بخريطة التحالفات الدولية، وعلى هذا الأساس تقرر استراتيجياتك اللازمة لتحقيق أهدافك.

أما اليوم فقد أصبحت واقعية البعض السياسية تُختَصر بالتفاوض على ثوابت الثورة، وأولها الاعتراف بالنظام وتسليمه المحرر، مع ممارسة الإرهاب الفكري ضد من يعارض هذه الخيانة، عبر اتهامه بالتهور، والتطرف، وضيق الأفق!!!!

وأقول للواقعيين السياسيين أن الإنسان بمسيرته الطويلة اكتشف طرقا ملتوية توصله لأهدافه تغنيه عن مداومة القتال، والحرب، وسفك الدماء، وهذه الطرق تعتمد على المراوغة، واللف، والدوران، وعقد الاتفاقيات، ومناصبة العداوات، حسب خريطة المصالح، كنوع من التغيير الأقل خسائر لأسلوب الحرب لتحقيق المصالح، فالحرب والسياسة صنوان، يعملان معا بالتبادل، للوصول لنفس الغاية، وبالتالي أي عملية سياسية لأي كيان، لا تملك مسارا عسكريا يحميها، أو لا تمثل هذا الكيان، وتحقق أهدافه المرسومة مسبقا تكون وبالا عليه، وخيانة لمبادئه، تماما كحال من يفاوض باسم الشعب السوري الثائر، لتحقيق مكتسبات هي أساسا ضد ثورة الشعب!!!!
فهل هذا يسمى واقعية سياسية أم واقعية خيانية!!!

الواقعية السياسية تفرض عليك أن تقاتل بما تستطيع لتحقيق أفضل شروط للتفاوض السياسي، لأن القوي على الأرض يفرض شروطه على طاولة المفاوضات بمقدار قوته، لذلك القوي يحتاج أن يقاتل بكل جهده بغية تحقيق أفضل نصر يعطيه ميزات إضافية، والضعيف يحتاج أن يقاتل بكل جهده للتخفيف من شر هزيمته، وإذا انعدم القتال عند الضعيف فجلوسه مع القوي ليس تفاوضا، بل هو لتوقيع شروط استسلامه المذلة، فماذا سيجبر القوي على الاعتراف بالضعيف والرضا بما يطرحه؟؟؟

أجد في نفسي سذاجة في مناقشة هكذا فكرة، لأنها من البديهيات الواضحات التي لا تحتاج برهان، ولا ينتطح فيها عنزان، لكننا صرنا نتيجة انتكاس الفطر السليمة، وسيطرة خطاب الهزيمة، نحتاج لأن نناقش البديهي، ونثبت صحة الصحيح!!!

أي عملية سياسية للثورة الآن، وهي بهذا الضعف العسكري والترهل هي انتحار، وكل ما يسمى ضمانات دولية، خاصة التي تأتي من طرف الحلفاء هي إبر تخدير، نحتاج لرص صفوفنا والقتال حتى آخر رمق، على الأقل لنحسن من شروط هزيمتنا، ووالله لو أخذنا بأسباب القتال ثم قاتلنا لوجدنا النصر أقرب، وأسهل مما نتخيله، لكن ينقصنا القائد الرمز، الذي يجمع بسالة الإقدام، مع شجاعة الصمود.

قرأت مرة في أحد كتب الكاتب الأميركي روبرت جرين قصة عن اللورد ويلسن القائد البحري البريطاني، كان معروفا بشجاعته، وعبقريته، وتضحيته في سبيل وطنه، لكن القيادة البريطانية وضعته ثانيا في القيادة، وأمّرت عليه رجلا يسمى " هايد " وأوكلت له مهمة إقناع الدانمارك بإقامة حظر بحري على فرنسا بقيادة نابليون، المهمة تبدو ديبلوماسية أكثر منها عسكرية، وتحتاج لواقعية سياسية أكثر منها لضغط عسكري وقتال.

جمع هايد الضباط ليشاورهم، فما كان من نيلسن إلا أن انفجر غاضبا صائحا أن الدفاعات الدانماركية مرعبة للأطفال فقط، وبإمكان البريطانيين إحراز نصر عسكري كبير إن قاتلوا، وفعلا سقط هايد أسيرا لاندفاع نيلسن وقرر دخول الحرب، لكن قراره كان نابعا من نفسية مهزوزة مترددة، تعشق السلام والوداعة، وتخشى المغامرة والاندفاع.

بدأت المعركة وبدا فيها أن خسائر البريطانيين كبيرة، مما ولّد إزعاجا وقلقا لهايد، لأن حياته المهنية كقائد كانت على المحك، بعكس نيلسن الذي كان يعرف ما يجري ومدركا لأبعاد الواقع.

وبعد 4 ساعات من المعركة أمر هايد برفع راية الانسحاب وهي الراية رقم  39 ، لكن نيلسن تجاهل الأمر وكأنه لا يعنيه، وحين أخبره أحد الضباط بأمر راية الانسحاب تناول منه النظار _ وكان نيلسن أعورا _ ثم وضعه على عينه العمياء وقال له ساخرا أين هي؟ أنا لا أرى شيئا؟

وبعد أقل من ساعة على رفع الراية رقم 39 تهاوت دفاعات الدانماركيين  واستسلموا لينتصر البريطانيون!!!!

لو صبر الدانماركيون قليلا لانتصروا وسحقوا البريطانيين!!!.

لو لم يتجاهل نيلسن أمر الانسحاب النابع من نفسية هايد المستسلمة والخائفة على منصبه، لما انتصر البريطانيون في حربهم وحققوا هدفهم.

واليوم من ينصحنا برمي السلاح والاستسلام للمصالحات الخيانية المذلة بذريعة الواقعية السياسية، ورفض التغيير الديموغرافي، والحفاظ على من تبقى، هو إما شخصية منهزمة مستسلمة تحتاج لمن يرميها في أواخر الصفوف، أو خائن يريد تخذيلنا عن تحقيق ما نستحقه من نصر...

لذلك لا سبيل لنا إلا أن نقاتل، ونقاتل، ونقاتل، ثم نقاتل، ونقاتل، ونقاتل، فإما أن ننتصر، أو على الأقل نجعل نصر عدونا _ لا سمح الله _ بطعم الهزيمة، ونحقق لأنفسنا شروط هزيمة أفضل.

يقول كارنيجي : " كثير من الرجال الناضجين لا تقل مخاوفهم عن مخاوف الأطفال والصبيان  "


جاد الحق


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق