05‏/01‏/2019

اعتراف حول الثقافة والمثقفين




كلما تقدمت بالعمر أكثر أحببت الثقافة أكثر، وكرهت المثقفين أكثر وأكثر....

البعض يظن أنه ليصبح مثقفا فلا بد من تقطيب دائم لوجهه، مع عبوس كالح، والنظر للناس ( الغوغاء ) نظرة اشمئزاز فوقية، والحكي معهم بلهجة الأب الذي عركته الحياة، مع أبنائه السذج الأغرار.

هذا بالنسبة للغة جسد المثقف وإيماآته وسمته، أما بالنسبة لمزاجه، فهو معكر دائما بسبب انشغاله بالقضايا المصيرية، فلا وقت لديه لرحلة لأنها مضيعة للوقت، أو مشاهدة فلم كرتون فكاهي لأنه استخفاف بعقله وقيمته، ولا يصلح مزاجه إلا احتساء ( احتساء وليس شرب ) القهوة السوداء، مع ديوان لمحمود درويش، أو نزار قباني، على أنغام أغنية لفيروز، أو زياد الرحباني، وتوثيق لذلك بعشرات الصور على وسائل التواصل، لينقل لنا هذا الجو المفتعل الذي يريد صاحبه إقناعنا به أنه مثقف من الطراز الرفيع، بينما نحن مجموعات من الأوباش الذين لا يمثلون إلا ضجيجا حياتيا، وتلوثا فكريا، يعكر صفو الأستاذ المثقف.....

مع الأستاذ مثقف أنت في توفز مستمر، واستنفار دائم، فأي نَفَس منك هو ازدراء له، وأي تعليق لك هو تهكم عليه، وأي رأي لديك هو مناكفة مقصودة، لماذا؟ لأنه بالطبع مركز الكون، وظل الإله في الأرض، ففي الوقت الذي تجد أنت فيه طعم الحياة ببساطتها وعفويتها، يركز هو بذكائه اللا محدود، وتميزه الغير طبيعي، على تلك التفاصيل التي تولّد لك آلاف الأسئلة المستهلكة للعمر في الركض اللاهث بحثا عن إجابات لها..... ويمضي العمر عليك مستمتعا بعفوية حياتك هانئا فيها، وعليه متحرقا في لظى الحيرة، هائما في متاهاتها.... لا تفرح كثيرا فالمتنبي يقول:
ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ 
وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ

طبعا أنت أخو الجهالة المتنعم، وهو ذو العقل المتألّم :) .

هذا المظهر المقيد الذي يحشر صاحبه نفسه في زنزانته، يجني عليه من الويلات ما لا يطاق، فيكفيه أنه يحرمه الاستمتاع بعفوية الحياة، وبساطتها التي تحوي سر جمالها، فبسبب شرنقة ما يظنه ثقافة، والتي أحاط نفسه بها، يكون قد وضع ألف حاجز بين روحه وأرواح الآخرين، لذلك ترى نفسه سجينة عالم زجاجي بارد، لا وجود فيه لدفء المشاعر الإنسانية، ولا حميمية التواصل البشري!!!

المثقف الحقيقي ليس من يحفظ طول نهر الأمازون، ويزدري الناس، ويقرأ أشعار محمود درويش، محتسيا قهوته السوداء، في طقوس يحاكي بها صورة المثقف النمطية التي صنعها الإعلام وفرضها علينا،  وتفصله عن هموم مجتمعه وحياته اليومية، بل هو من يجعل ثقافته وعلمه خادما لمن حوله من بسطاء الناس وعوامهم، الذين لم يسعفهم القدر بأن يحظوا بهذه النعمة.

المثقف من يرى في ثقافته غديرا لتغذية روحه بأحسن الأخلاق وأفضلها، بعيدا عن التشدق والتقعر والعبوس مع البسطاء.

المثقف هو من تعطيه ثقافته ألف سبب آخر ليبتسم في وجه الحياة، هو من يرى في ثقافته منظارا يبصر فيه تفاصيل عفوية للكون تجعل منه مكانا أفضل!!

نعم يحتاج كلنا الفرار من صخب الحياة وضغوطاتها لجو نراه يريحنا، لكن لنسأل أنفسنا بأمانة هل هذا الجو قد صنعناه نحن لأنفسنا، أم اقتبسناه بتقليد غير واعي لمن نظنهم مثقفين!!؟؟

أود أن أختم هذه الخاطرة باعتراف بسيط.....
لي مع الكتب وما يتعلق بها هوى قديم، وعشقي للبرامج الوثائقية لا حدود له، الكتابة والتدوين صمام أمان لعقلي من الجنون، والسينما أجدها فن راق جدا، يكاد يكون أفضل ما أنتجته البشرية، لكن....
وبصراحة مطلقة..... لا أحب أشعار نزار قباني، ومحمود درويش، ولا أجد أي نشوة في صوت فيروز وأغانيها، ولا أطيق احتساء القهوة ولا حتى شربها، لأنها ببساطة شديدة، مرة الطعم!!!

أعشق كتابات أحمد خالد وتوفيق، وأتلذذ بأشعار فاروق جويدة وأحمد مطر والمتنبي، ومشروبي المفضل هو الشاي الأخضر.

أفضل الأفلام الفكاهية والمغامراتية على الأفلام الفلسفية الجدلية، وأحب الشعر البسيط الواضح الموزون، على ذلك المعقد المغرق بالرمزية والمتحرر من الأوزان الشعرية.

في التعاملات الاجتماعية تعجبني العفوية وأكره التعقيد، ويميل قلبي لمن هو بسيط وواضح، وأمقت المُبهَم المتكلِّف.

فهل يا ترى سيقبلني أعضاء نادي الثقافة بينهم ولو عضوا نصيرا، أم سيرفضونني لأني لا أفهم في التأثيرات الكوزموبوليتانية لإرهاصات عصر ما بعد الحداثة!!!؟؟؟

جاد الحق


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق