03‏/03‏/2018

استحمار الشعوب


في مطلع السبعينات من القرن الماضي، أعطى المفكر االإيراني الراحل علي شريعتي، محاضرة في طهران بعنوان النباهة و الاستحمار، و التي تحولت لاحقا لكتاب.

في هذه المحاضرة يشرح علي شريعتي بعض الأساليب، التي تنتهجها الدول الرأسمالية _و في طليعتها الولايات المتحدة الأميركية_ و التي تؤدي لتحويل الشعوب من نماذج إنسانية منوعة، وراقية، ومبدعة ذات إرادة حرة، تستطيع تقرير مصيرها، واختيار طريقها، إلى نموذج استهلاكي موحد، وضيع وخامل، لا ينتج ولا يقرر، بل يعيش على فتات إنجاز غيره، و ينتظر من يسيره في الطريق المختار له سلفا.

و لعل الشعوب الإسلامية من أبرز الأمثلة على الاستحمار و التدجين، فمجرد أن تعرف أن المسلمين استطاعوا في ماضيهم، و لأكثر من مرة، تكوين دولة قوية واحدة تجمعهم و توجههم، وتسلم لهذه الدولة باقي دول العالم وتذعن لها، مجرد أن تعرف ذلك ثم تنظر لواقع المسلمين اليوم، فإنك على الأغلب ستتسائل عن سر هذا التحول المخيف، والسريع بآن معا!؟

السر باختصار هو إعادة توليف القيم، فقد قام أعداؤنا ببساطة بعملية برمجة لمفاهيمنا الدينية والاجتماعية، ووضعوا لنا مفاهيم جديدة، حذفوا المفاهيم الإيجابية التي تعتبر دوافع واستبدلوها بأخرى سلبية، و سنستعرض بعض المفاهيم الإيجابية المحذوفة من وعينا الجمعي، سنتفاجىء بأننا نعرفها بل و نحفظها إلا أنها لا تثير في أنفس أغلبنا أي تحريك أو استجابة، إليك عزيزي القارئ:

_) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 41 ) التوبة.

_) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) آل عمران.

_) " إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر [ حديث شريف ] ".

_) حبُ السلامةِ يثني عزمَ صاحبهِ *** عن المعالي ويغري المرءَ بالكسلِ.

_) وإذا كانتِ النفوسُ كبارا *** تعبت في مرادها الأجسامُ.

_) إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ *** فلا تقنع بما دونَ النجومِ
فطعمُ الموتِ في أمرٍ صغيرٍ *** كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ

_) يرى الجبناءُ أنَّ العجزَ عقلٌ *** وتلكَ خديعةُ الطبعِ اللئيمِ
وكلُّ شجاعةٍ في المرءِ تغني *** ولا مثلَ الشجاعةِ في الحكيمِ

_) إذا ما الملكُ سامَ الناسَ خسفاً *** أبينا أن نقرَّ الذلَّ فينا
بِشُبَّـانٍ يَرَوْنَ القَـتْلَ مَجْـداً *** وَشِيْـبٍ فِي الحُرُوْبِ مُجَرَّبِيْنَـا

_) " يفوز باللذة كل مغامر "، " من لم يركب الأهوال، لم ينل الآمال "،  " لا تنقاد الآمال إلا لصابر "، " لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا "، " انصب، فإن لذيذ العيش في النصب ".

هذه المفاهيم الإيجابية، التي كانت مغروسة فينا و نربى عليها تم استبدالها بالمفاهيم السلبية التي تدعو للخنوع والذل و الاستكانة، وإليك المفاهيم الجديدة:

_)  " امشي الحيط الحيط و قول يا رب السترة ".

_) " يلي بتجوز أمي بقله عمي ".

_) " فخار يكسر بعضه ".

_) " الحيطان إلها أدنين ".

_) " ألف كلمة جبان و لا كلمة الله يرحمه ".

_) " الهريبة تلتين المراجل ".

_) " اربوط الجحش محل ما بقلك صاحبه ".

بعد المقارنة بين المفاهيم القديمة و الجديدة، ستعرف لماذا مسخت القدوات من أسامة بن زيد، لجستن بيبر، ومن محمد الفاتح لتامر حسني، ومن خديجة بنت خويلد لفيفي عبده، ومن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه و سلم لنانسي عجرم.

ستعلم لماذا كنا جبالا في الجبال و ربما سرنا على موج البحار بحارا، و اليوم صرنا كغثاء السيل.

إذا لم نوقف تناقل و تطبيق منظومة القيم الاستحمارية، سوف تظل الأجيال القادمة عبارة عن حمير تجر عربة الغرب، إذا لم نربي أبطالا لن يكون لدينا أبطال، وإذا ربينا حميرا سينتج لدينا حمير، معادلة سهلة و بسيطة.

بالأمس كانت الريادة بشتى المجالات طموح الشباب، أما اليوم طموح شبابنا هو زوجة، أطفال، وظيفة، منزل، طموح شباب اليوم لا يختلف عن منجزات أي دابة في حياتها الروتينية، لا تستغرب ذلك فنحن من أنشأنا أطفالا دوابا، كما أنشَأَنا آباؤنا من قبلهم.

و في النهاية أختم بهذه القصة من تاريخنا:

شكَّ الأصمعيُّ في لفظ استخذى ( أي خضع ) ، وأحبَّ أن يستثبت :
أهي مهموزة أم غير مهموزة ، قال :
فقلتُ لأعرابيّ : أتقول استخذيتُ أم استخذأتُ ؟
قال الأعرابي : لا أقولهما .
فقلتُ : ولِمَ؟!
قال : لأنَّ العربَ لا تستخذي ( أي لا تخضع )!.

بقلم #جاد_الحق


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق