31‏/03‏/2020

كورونا والجهل المبطّن

يبدو أن الكورونا نجح في سلب المتنبي لقب "مالئ الدنيا وشاغل الناس" بعد "التريندينغ" الذي حققه بجهوده الشخصية كفيروس، أو بجهود من صنعوه مخبريا ونشروه حسب رأي أصحاب نظرية المؤامرة.

ورغم الهالة الخطرة التي أحاطت بالفيروس، إلا أني لا أملك نفسي أحيانا من التبسم ببعض المواقف التي كان سببا فيها...

بداية أخبار انتشاره في الصين اجتاحت مواقع التواصل موجة من الشماتة، لأن أصحابها اعتبروا الفيروس عقابا من الله للصين على إجرامها بحق الأويغور، وبعد أنباء وصوله وتفشيه بإيران وموت عدد من رجال نظامها فيه تحولت الشماتة لفرح واستبشار، حيث اعتبر هذا الفيروس كشخصية "زورو" نصير المظلومين والمستضعفين.

ثم اقترب الفيروس منا...
وحينها بدأ مهرجان استقباله العجيب!!
فجأة أصبح الجميع من حولي رؤساء أجهزة استخبارات عالمية، أو باحثين بعلم الأحياء والأدوية، أو أطباء متخصصين، أو خبراء بالصحة المجتمعية والحرب البيولوجية!!!
فقط أنا بقيت كما أنا، مواطنا بسيطا عاديا يستمع لتحليلات متخصصين، كان يظنهم قبل يوم أناسا عاديين مثله.

حرب بيولوجية، عقاب من الله، كذبة إعلامية، وباء خطير، إنفلونزا عادية، غرغرة بماء وملح، شرب يانسون، لا يصيب المسلمين إطلاقا، أخطر إنفلونزا من مئة عام...
تحليلات وعلاجات من أقصى الشرق لأقصى الغرب طفت فجأة على السطح، والمثير للعجب أن أقل من تكلم بهذا الموضوع، وتردد بالمسارعة بإبداء رأيه فيه هم المختصون الحقيقيون!!
لأن المتخصص يعلم أن كلمته مسؤولية، وهي محسوبة عليه في الدنيا والآخرة، وقبل أن ينطق بشيء عليه أن يدرسه دراسة مستوفية، ويفقه تماما كل ما يتعلق به، ويستشير غيره من أرباب التخصصات قبل أن يصدر حكمه.

عرّى الكورونا جانب الجهل المبطن فينا، الذي هو أخطر من الجهل العادي وأشد عمقا منه، لأننا نرفض الاعتراف به، ونغطيه بستار من الحذلقة والتمثيل والكلام المتهافت، ولولا هذا الجهل المبطن كيف سنسمع من أناس لا يجيدون كتابة منشور فيسبوك دون أخطاء لغوية ونحوية هذا القدر من التحليلات العبقرية، والعلاجات السحرية، لكورونا الذي ركّع أكثر الأنظمة قوة؟

من أكثر الناس الذين تصدروا مؤخرا للإفتاء بنازلة #كورونا هم الإعلاميون والناشطون، الذين برروا نشرهم لجهلهم المبطن بذريعة توعية المجتمع والحرص عليه، متناسين أن توعية المجتمع ليس عملهم وغير مطلوب منهم، بل هو عمل المتخصصين حسب كل مجال، بينما هم عليهم تسليط الضوء على أولئك المتخصصين، وتسهيل وصول كلامهم للجمهور، أما تسجيل ما يسمى بفيديوهات توعوية صحية من أشخاص لا يملكون شهادة ثانوية، يهرفون فيها بما لا يعرفون فهو جريمة بحق أنفسهم بالدرجة الأولى ثم بحق المجتمع!!!
ولو أنهم يملكون أدنى تقدير لذواتهم، أو للمجتمع الذي يظنون أنه بحاجة لتوعيتهم من كورونا، لآثروا الصمت وإفساح المجال لأهل الاختصاص.

ثم تأتي دعوات البقاء بالمنازل لنفس الشريحة من الأطباء والعلماء الجدد، وهم أنفسهم يقضون أوقاتهم خارج منازلهم يصورون وينظمون "النشاطات التوعوية" ، وحجتهم جاهزة وهي خدمة المجتمع، ونقل الصورة الحقيقية و... إلخ

ومن قال أن العامل اليومي الذي يبيع صحته بليرات معدودة يطعم فيها أبناءه خبزا ليعيشوا فقط، وتطالبونه أنتم ببقائه بمنزله دون إيجاد وسيلة يطعم أبناءه فيها لا يخدم المجتمع مثلكم بل وأكثر؟

من قال أن صاحب المتجر، أو البسطة، أو الصنعة الذي يكد طوال الشهر ليجني بضع ليرات يدفع أغلبها آجارا لمنزلٍ متهاوٍ يستره وأسرته بعد تهجيره من بلده على يد عصابات الأسد لا يخدم المجتمع مثلكم وأكثر؟؟

استيراد إجراءات الدول المتقدمة المستقرة في مكافحة الفيروس، ثم الرغبة باستنساخها حرفيا على مجتمعنا المنكوب نوع آخر من أنواع الجهل المبطن.

لا أقول أني مع ترك الناس بدون وقاية أو توعية ليلاقوا مصيرهم بحجة الوضع الكارثي، ولست طبعا من أنصار نظرية المؤامرة الفيروسية، ولكن لنهدأ قليلا، ونفسح المجال للخبراء، والعاملين، ونفكر معهم بحلول تناسب خصوصية مجتمعنا.

ولا يفوتني التعريج على أصحاب جهل مبطن آخر من المتنطعين الذين يصوّرون الفيروس أنه ابتلاء محض من الله وقع بسبب الذنوب وترفعه فقط التوبة، ولا يجب معه إغلاق المساجد، بل جعلوا قضية إغلاق المساجد مادة خصبة للمزاودة، وأحدهم إن كان يصلي غير الجمعة، ففي بطنه من الدم والمال والعرض الحرام ما الله به عليم...

وأيضا أنوّه أني لا أنكر أن الفيروس بتقدير الله، وآية من آياته، وأن التوبة ضرورية في كل زمان، لكن هذا لا يعفينا من مواجهة هذا القدر أو الابتلاء بما تقتضيه الشريعة السمحاء، والعقل السليم، وإلا كان ما هدانا الله إياه من شرع وعقل حجة علينا لا لنا !.

لكورونا جانب مشرق، فيكفي أنه فضح الكثير من مستور جهل البعض، وأهدانا عطلة يحتاجها الكثير نفسيا وجسديا، وذكرنا بالله وقدرته وضعف الإنسان مهما طغى على مواجهة أضعف المخلوقات، ليس ذلك فحسب، بل كان سببا في تخفيف حدة التلوث بالكوكب، نتيجة ما فرضه من إقامة جبرية علينا، لينقذ أعدادا أكبر ممن تسبب بوفاتهم، كانوا يقضون نتيجة التلوث وأمراضه، والخبر نشره موقع الجزيرة وغيره.

شكرا كورونا، أرجو ألا تستمر زيارتك للبشرية أطول....


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق