31‏/03‏/2020

داعش الموجة الثانية

داعش الموجة الثانية

رغم التعثر الذي واجهه الربيع العربي بسبب قوى الثورة المضادة، إلا أنها عجزت تماما عن إعادة العجلة للوراء لما قبل سنة 2011 ، حتى بالمبالغ والجهود الضخمة التي بذلتها، ورغم التضحية بكثير من الأقنعة والشخصيات والمؤسسات المستخدَمَة كغطاء تمويه وخداع للشعوب، ومع ذلك كان الجمود الحركي للربيع العربي لا يتناسب مع ما تم بذله من جهود للقضاء عليه من قبل قوى الثورة المضادة، وبنفس الوقت لا ينسحب على حالة الوعي الفكري والإعلامي المستمرة التي تعيشها الشعوب العربية، خاصة الثائرة منها.

لهذا التعثر الحركي أسباب كثيرة، أهمها راكبو موجة الثورات، سواء أشخاص، أو دول، أو تنظيمات، وأبرز ما يميزهم هي حالة الاستعمال المتعدد، قد يكون بنفس النكهة مع زيادة تركيز، أو بنكهة ثانية، وربما معاكسة، لكن تبقى قاعدة القابلية للتدوير نفسها. وبتخصيص الكلام عن الحالة السورية نجد أن التراجع العسكري للثورة، وانحيازها عن مناطق كثيرة، ومصادرة قرارها العسكري لصالح تركيا، أجبرها على تركيز جهودها على مناحي أخرى مهمة، سوى العسكرة التي انصبت كل الجهود والآمال عليها في الفترة السابقة، فصرنا نسمع عن جهود تجميع للسوريين في أحزاب سياسية، ومنظمات مجتمع مدني، ترمم تَرِكَة العسكرة، وتعيد صياغتها بما يضمن رشاد البندقية، خاصة بعد يأس الثوار من استلامهم زمام المبادرة العسكرية من جديد، بسبب تفكيك تنظيم "هتش" لقوى الثورة، وحلّه لعراها الوثيقة في المناطق التي يحتلها، مع زيادة الهمجية الروسية في المواجهة. وفي الوقت الذي كانت الأضواء فيه مسلّطة على ما يحصل بغرب سوريا المنكوب، والمنصات الإعلامية مركزة على مصير اتفاقاته، كانت الأحداث الأخطر تسري بهدوء شرقها....

فالنهاية المفاجئة المزعومة لتنظيم داعش شرق سوريا على يد قسد، واستسلام الآلاف من مقاتليه، بعد إخلاء عشرات الأمراء والأفراد منه بمروحيات التحالف، ثم انحسار من تبقى لبؤر معزولة بالصحراء، وتواتر أنباء بين الحين والآخر عن عمليات لها في بادية سوريا، ثم العبور الغامض لقائده من مناطق قسد، إلى سيطرة الجيش الوطني، فإدلب، ليلقى مصيره على يد الأميركيين كنهاية درامية لمرحلة سابقة، كل تلك الأحداث تدل أن التنظيم في مرحلة إعادة التدوير بانتظار بعث جديد، تماما كحال الوحش في الأفلام الذي يظن المشاهدون أنه قُتِل لنُفاجأ بآخر مشهد أن المخرج تركه حيا، وهناك جزء ثانٍ لبعثه الجديد...

ذكرنا أن الثورة بعد صدمتها العسكرية، ودخول تركيا إلى جانبها على الأرض بشكل مباشر دون رضا إقليمي أو دولي، كانت قد انكفأت على نفسها لإصلاح شأنها الداخلي، ومحاولة ترميم النقص في بنيتها، وتصويب أخطاء مسيرتها، فما الذي يمكن أن يحرق مرحلة المراجعة الذاتية الثورية المهمة هذه سوى إعادة فزاعة داعش من جديد للواجهة؟!

الثورة اليوم بين تطرفين، أسيرة قوى تتناهبها على طرفي نقيض، فأقصى اليمين تنظيمات غلو وتكفير، وأقصى اليسار بعض الفصائل المسيئة المهلهَلَة البنية المتسترة باسم الجيش الحر. وجود كل طرف من الاثنين هو سبب في تغذية وجود الطرف الآخر، فكلاهما تطرف مذموم لا يمثل أخلاق الثورة السورية وأهدافها، وكلاهما يمثل بيئة خصبة لنمو بذرة الدعشنة، لأن التكفيريين عمود الدواعش الفقري لا يخرجون، وتروج أطروحاتهم، إلا على حين فرقة من الناس كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن المسيئين وردة الفعل الناتجة عن أفعالهم، ودعاية قتالهم، أكثر ما يعتمده التنظيم في الترويج لنفسه بين أبناء المحرر.

كل فترة نسمع خروج مقاتلين دواعش من أسر قسد بوساطة عشائرية، ناهيك عمن يهرّب برشاوى باهظة دون أن نسمع عنه، أو من يُيَسرّ له طريق الهروب من السجن إن لم يجد ما يدفعه، حتى بات الدواعش محل حسد على ذاك القدر السعيد في الهروب من السجون، حتى تظنهم جميعا "مايكل سكوفيلد" بالتخطيط للهروب من السجن!!!

أما موضوع سهولة تنقلهم بين المناطق والدول، وعدم كشفهم من استخبارات هذه الدول فحدث ولا حرج، تحسب أن لديهم بساط سليمان، أو طاقية الإخفاء، ولا أدل من ذلك من حادثة مقتل زعيمهم في إدلب، فكيف وصل لها قادما من العراق؟؟!!

أضف لذلك حقيقة أن داعش شركة مخابراتية مساهمة، بمعنى أن لاستخبارات كل دولة رجالا، وأجنحة في هذا التنظيم، لذلك نراه يسير بانتظام في مهمة قتل الشعوب وتدمير حركاتهم التحررية من الداخل، وإعطاء الذريعة الدولية لحرق المناطق السنية وإبادتها، لكن تختلف الأساليب حسب مصلحة كل دولة.

تركيا والثورة وحيدتان في محيط من الأعداء الإقليميين، والدوليين، وليس أفضل من إثارة أفاعي داعش عليهما، خاصة بوجود تنظيمات ترعى فكره وتوفر له البيئة الخصبة للتفريخ، وأخرى تساهم بأخطائها وسلبياتها وسوء تعاطيها مع الأمور بإعطاء المبرر الأخلاقي لأنصار التنظيم، وتوفر بنيتها الهشة غطاء جيدا له للاختراق والاستهداف وإحراز النقاط.

تخيلوا مقدار الدماء والجهود والمقدرات والأوقات التي سنبذلها من جديد في مواجهة داعش!!!
سيكون نزيفا مميتا لمخزون الثورة الهام يستهلك خيرتها من كل شيء، في وقت حساس نحاول به ترميم ما نستطيعه بالداخل، وترشيد علاقتنا بالحلفاء، وإعادة تقديم نفسنا للعالم بما يضمن مصالحنا. النظام السياسي الدولي صنف عدوّان له، يحق لكل الحكومات المشاركة فيه فعل ما تشاء بذريعة مواجهتهما، ألا وهما داعش والكورونا، وإن كانت الكورونا أصابت العالم بالشلل، واقتصاده بالانكماش، فلا شيء ينشّطه أفضل من عودة داعش للملعب....


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق