25‏/02‏/2019

المرض النفسي الذي تفرد به العرب

دائماً ما كنت أعجب من نذير الشؤم الذي نحمله بداخلنا، (بُومنا) الكامن إن صح التعبير، ولتقريب الفكرة أكثر تذكر كم مرة جمعك مجلس فكاهة لذيذ محبب للنفس ضحكت فيه حتى نسيت همك، ليقطع أحدهم مرح الجلسة قائلا: “الله يعطينا خير هالضحك”؟! وكأن الله، وحاشاه عن ذلك، كتب في اللوح المحفوظ أن عاقبة كل ضحك هي مصيبة تبكيك من حرها!

عادة ما تكون السعادة مدار البحث والتنقيب في حياة الإنسان، لكن الإنسان العربي لا يدخل ضمن هذا التعميم، بل هو استثناء القاعدة الذي أعجز الفلاسفة والعلماء، فوحده الإنسان العربي من يفتش عن الحزن ليعيشه، وإذا لم يجد الحزن يتفنن بصنعه بنفسه.

اكتب في مستطيل البحث باليوتيوب كلمة الأغنية وستجد اليوتيوب سيكمل لك بالتالي: الأغنية التي أبكت الملايين، الأغنية التي ستجعلك تبكي رغمًا عنك، …. إلخ، ولو اخترت في البحث هذه الخيارات ستصدم من حجم المشاهدات والتفاعل على هذه المقاطع!

بعيداً عن نظرية المؤامرة، لكن يبدو أن اليوتيوب قد فهم تماماً المزاج العربي.

مرة قررت أن أقوم بتجربة ميدانية ضمن دائرة معارفي، سألتهم ماذا تفعلون صباحاً حين تستيقظون؟ ولماذا تفعلون ذلك؟

على السؤال الأول تنوعت الإجابات بين شرب القهوة وسماع فيروز والتدخين، على السؤال الثاني اتفقت الإجابات على تعليل التصرفات بعبارة “حتى أروّق”!

كأنَّ الأصل أن يقوم الإنسان من نومه منزعجاً مكتئباً بعد شجارات منامية، أو أشغال حُلُمية شاقة!

هذا التساؤل العجيب بقي يدور بذهني حتى وجدت له جواباً شافياً عند العبقري الراحل (أحمد خالد توفيق) حيث أتى الجواب في قصته أسطورة (الجاثوم) على لسان بطل سلسلته ما وراء الطبيعة الدكتور رفعت إسماعيل: “لماذا فَقَدَته؟ لم تعد تذكر الآن.. لقد كان يحبها بجنون.. لكن (إرادة النكد) حق لا ريب فيه مثل (إرادة الفشل) و (إرادة الموت) هي الشيء السحري الذي يدفع المرء لإفساد سعادته حين يكون سعيدًا.. ويدفع محبين متفاهمين إلى الشجار دون سبب أو لسبب لا يذكر.”

نعم إنها إرادة النكد، مصطلح أكثر من بليغ يوصّف ذاك الشخص الذي نحبسه بين أضلاعنا وقد نصطلح على تسميته الصوت الداخلي، أو الشخصية، أو الضمير، فهذه الكينونة التي نحويها تؤنبنا دوماً في أي لحظة فرح، وتستغلها لإفساد مزاجنا وسعادتنا بالإيحاء لنا أن هذه السعادة نذير الشؤم القادم، والهدوء الذي يسبق عواصف المصائب، لكن ما سبب هذه الظاهرة؟؟

السبب الرئيس هو حالة الكبت والاختناقات التي تعانيها شعوبنا، أزمات إثر أزمات يقاسيها المواطن العربي حتى ثبت في اللاوعي عنده أن السعادة لذة محرمة عليه، فإن نالها قدرا فعليه التبرؤ منها والتوبة لله واستغفاره عمَّا أجرم.

حتى ذاكرتنا الشخصية تقف ضدنا إن أردنا استرجاع لحظات جميلة عشناها، فتقدم لنا ذكريات سوداء وتقنعنا أنها جميلة، مثل حين أجتمع مع أصدقائي القدامى ونفتح صندوق الماضي، أراهم يتحسرون على أيامنا في المدرسة والجامعة، مع أنني وهم نعرف تماما أنها كانت عبارة عن أزمات مالية، وصدامات مع الأهل، ومشاكل دراسية، وشجارات مع المدرسين لا تنتهي، وصفعات عاطفية محرقة، ومع ذلك أُفاجأ بإصرارهم على تذكرها والتحسر عليها، علمًا أنني سجدتُ شكرًا لله أن نجاني منها إلى ما أنا فيه اليوم من أيام أقل توحشا على الأقل على الصعيد الفردي، وقِس على ذلك ذكريات باقي الناس عن خدمتهم العسكرية الإجبارية في جيش النظام، وما قاسوه هناك من إذلال وتعذيب وإهانات‘ ثم إصرارهم على استرجاع تلك الأيام بغلاف من  التلذذ العجيب والحسرة على ما فات!

أظن أن طول عهد القمع السياسي الذي عاشته الشعوب العربية لم يترك فقط آثارا سلبية على اقتصادها وتقدمها، بل الأخطر أنه ترك ندبات محفورة بروحها ووجدانها أوجدت لها ما يشبه التشوه النفسي، واضطراب التمييز بين الجيد والقبيح، لا أرى غير ذلك تفسيرًا لمصطلح إرادة النكد الذي أطلقه الراحل المبدع أحمد خالد توفيق.


جاد الحق


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق