27‏/10‏/2019

بين ثورة "كرميلا السكسي ليدي" وثورة "جنة يا وطنا"



قبل الثورة كنت أخجل أني من سوريا، وأشعر بالدونية والصغر مطلقا زفرات حسرة وألم وأنا أقارن بلدي ومجتمعي مع بلدان ومجتمعات أخرى.

بعد الثورة السورية المباركة، تغير هذا الشعور للنقيض، والفضل بعد الله هو لتلك الثورة وذاك الشعب البطل الذي قام بها.

تلك الثورة التي تم التآمر عليها من جميع الحكومات الطاغوتية الراغبة أن تربي شعوبها فينا، لكن صمود هذا الشعب المبارك في هذا البلد المبارك، جعل السحر ينقلب على السحرة حتى أُلقوا ساجدين صاغرين، وأصبحت الشعوب المتمردة هي من تربي الحكومات المستبدة فينا، وصار الشعب السوري الثائر أيقونة للشعوب المناضلة، وقدوة للشعوب المتحررة، حتى رأينا ألحان القاشوش تتخطى الحدود، ورغم السيل المستمر تسع سنين من المصائب المنوعة بقي هذا الشعب المبارك الأبي صابرا محتسبا متمسكا بقيمه ومبادئ ثورته.

بين ثورتين

أحترم كل تحركات الشعوب ضد ظالميها وأدعمها بشدة، إلا أني لا أستطيع كبح نفسي عن ملاحظة الفرق بين شعب خرجت ثورته من مساجده وحاراته صادحة حناجره بالتكبير وهتافات الحرية والكرامة، مواجها أحط نظام سياسي عرفه البشر، وأشده طاغوتية وإجراما، وشعب آخر خرج لأسباب اقتصادية بحتة _ وهذا مطلب حق طبعا _ وكانت معظم مظاهراته مسرحا للرقص والغناء والفكاهة.

أدرك تماما الاختلافات الثقافية والطائفية بين الشعبين، وخصوصية كل بلد، والأسباب الدافعة للثورة عند كليهما، لكن أسفار المجد المضيئة، وصفحات التاريخ الخالدة تسطرها الدماء والدموع، ويرتلها الضحايا بالأنين والنحيب، وهذا ما يعطيها قدسية البقاء والإلهام للأجيال اللاحقة.

يحز في نفسي كثيرا ما سمعته وقرأته لبعض الثوار أن ثورتنا "فاشلة" وثورة غيرنا أنجح، مستدلا بمظاهرها الطريفة والمطربة التي انتشرت إعلاميا بشكل أراه مقصودا لتنميط حراك الشعب واختصاره بصور معينة، وهذا ما دفعني لكتابة هذا المقال.

لا شك أن ثورتنا لو كانت غناء ورقصا وطربا كانت أريح وأبهج، لكن هل تُصنَع العظمة إلا من الألم؟؟
هل يتمايز النبلاء إلا بالبلاء؟

حقيقة الصراع

كلنا ينزع للمثالية، وترتاح نفسه للسهل، لكن قضية بخطورة ثورة شعب مظلوم على نظام سياسي ظالم ليست إطلاقا أمرا مثاليا، ولا تسلية سهلة، والتاريخ هو الحكم الفيصل بين خصمي كلامي، وعلينا كشعوب عربية أن ندرك يقينا أن هذه الأنظمة بأدواتها المختلفة وأولها الجيوش ليست من جلدتنا، بل هي أشد تنكيلا بنا من دول الاحتلال الأجنبي التي خرجت وتركتها تجرم فينا نيابة عنها وتسومنا سوء العذاب، وتبقينا بشكل غير مباشر ذنبا للاحتلال الراحل الباقي، ومزرعة له، والصور التي تخرج في أول الثورات عن تعاطف الجيش مع ثورة الشعب، ليست إلا خدعة ستنكشف قريبا، وبدأت فعلا بالانكشاف لشعب لبنان الثائر.

لماذا يحاربون ثورات الشعوب؟

محرم علينا حرمة الأم على ابنها، والأخ على أخته أن نختار من يحكمنا، ولو اتخذنا كل قيمنا الدينية والمجتمعية ظهريا، واتبعنا ديمقراطية الغرب وقيمه فلسفة وممارسة شبرا بشبر، لأن الشعب إن ترك حرا لن يختار إلا من يحقق مصلحته، وتحقيق مصلحة الشعب يعني لزاما محاربة مصلحة الاحتلال، فهاتان المصلحتان نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، ولا بد أن تغلب إحداهما الأخرى وتقهرها، ولنا في الشهيد بإذن الله مرسي عبرة، وأظن أن تعاد الكرة في تونس، وبرعاية من أفاعي دول الظلام، وعقارب الثورات المضادة، وفلول المطرودين.

ثمن الحرية الباهظ لا بد من دفعه والعاقبة للصابرين

فكرة جميلة أفادني بها أستاذي وأخي الأكبر الشيخ محمد أبو النصر في نقاش بيننا أود مشاركة القرّاء بها، وهي أن الثورات العظيمة باهظة الثمن حين تشتبك أحداثها، وتتوالى أزماتها تكثر فيها لطميات الندم، والحنين لفترة "كنا عايشين" فتسمع بها كثيرا معزوفات "توبة عاللي بعيدها" و "يا ريت لا طلعنا ولا تبهدلنا" وكنا بطاغية صرنا بألف، لكن حين يأتي موسم حصادها، ويصير وقت قطاف ثمارها الشهية، وتروح السَكرَة وتأتي الفِكرَة، وقتها يدرك أبناؤها أنها تستحق ما ضحوه لأجلها، وتبدأ كلمات المديح والثناء وكتابات الإطراء والتبجيل، وهذا ما حدث في الثورة الفرنسية التي استمرت طويلا حتى تمخضت أخيرا عن جمهورية فرنسا القوية، التي لم تكن لتوجد لولا مآسي الثورة، فمن يقرأ أدبيات عصر الثورة سيجد روح التشاؤم والندم عند أغلب كتاب ذلك العصر _ باستثناء المؤمنين بفكرتها_ بسبب ما شاهدوه من كوارث وأحداث مؤلمة بها، أما من يقرأ أدبيات من أتى بعدهم في عصر الانتصار وقطف الثمار سيجد عبارات الإطراء والثناء والتفاؤل لما لمسوه من آثار إيجابية لها بعد مخاضها الموجع.

هل ما أراه من صور ثورات أخرى يجعلني أخجل من ثورتي؟

أفخر أني ابن ثورة خرجت من المساجد، وقادها شباب متوضئون، كان شعارها التكبير، وأهدافها الحرية والكرامة لكل السوريين، صاغت أمجادها دماء الشهداء، وزفرات الثكالى، ودموع الحرائر، وصبر المهجرين، ورصاص المجاهدين، وإرادة الأحرار على إكمالها حتى النصر القريب بإذن الله، وأقدر وأحترم كل شعب حر ثار لحقوقه ضد لصوصه ومجرميه، وكل شعب ثائر بحق على مستبديه سيمر بطريقنا الذي رسمناه لمن بعدنا، وإن صبر وكافح لا بد أن يقطف أخيرا ثمرة انتصاره، أما مشاهد الثورات الوردية فما هي إلا سحابة صيف عما قليل تقشّع.

معتز ناصر ( جاد الحق )


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق