14‏/10‏/2018

التحرك في المنطقة الآمنة

من منا كسوريين لم يشاهد مسرحيات غربة، وكاسك يا وطن، وليلة سقوط بغداد؟

مسرحيات كوميدية سياسية _ هكذا صُنِفَت _ تميزت بنبرة نقد جريئة مقارنة بغيرها، وبشكل ساخر، لبعض سياسات الأنظمة الحاكمة، لكن السؤال المهم هو كيف تسمح أنظمة شمولية مجرمة لهكذا مسرحيات وغيرها أن تُعرَض للشعب الرازح تحت نير هذه السلطة المنتَقَدة في المسرحية؟
ألا تعتبر هذه المسرحيات تحريضا للشعب على الثورة ضد جلّاده؟

الجواب ببساطة هي أن هذه المسرحيات ما هي إلا حُقَن بنج، وأقراص مسكنة للشعب، لأن الشعب لو تُرِكَ مضغوطا فلابد أنه سينفجر بوجه السلطة، لذلك تعمد السلطة لصنع شريحة من المؤثرين على الرأي العام، تكون مهمتها التنفيس عبر تسليط الضوء على سفاسف الأمور من فساد وأخطاء، وانتقادها، وتضخيمها ليتوهمها الشعب أنها هي المشكلة الحقيقية، وأن هناك من يعالجها، وبالتالي ينسى جذر كل المشاكل وهو وجود السلطة القمعية نفسها!!!

ومن هنا نفهم مصطلح المنطقة الآمنة، حيث أنها ما يوفر لنا شعورا موهوما بالرضا عن الذات، سواءا كنا فيها مُنتَقِدين، أو سمّاعين لنقد غيرنا، في الحالة الأولى نحن مصلحون وطنيون شرفاء، وفي الثانية نحن شعب حضاري يتمتع بحرية التعبير.

في المنطقة الآمنة تنتقد الوزير وتسكت عن صاحب الجلالة الذي عينه، تتحدث عن فساد مدير دائرة حكومية، وتسكت عن فساد الحزب الحاكم الذي ينتمي له، تهاجم ضابطا مرتشيا وتسكت عن حقيقة أن الجيوش والأجهزة الأمنية في العالم العربي هي صنيعة المحتل، ويده الباطشة لحماية عملائه من الزعماء والرؤساء.

حين أتت اللحظة التاريخية الثورية الفارقة، انهارت المنطقة الآمنة التي كانت مرتعا خصبا للكثيرين ممن حسبناهم أصحاب قضية، وانقسم الناس لفسطاطين رئيسيين، الأول مع الأنظمة المجرمة، والثاني مع ثورات الربيع، قد يقول البعض أننا نسينا الحياديين، الواقع أن الحياديين لم يخرجوا ضد النظام القمعي، وإن لم يرضوا به بشكل كامل، لكنهم شاؤوا أم أبوا هم جزء من منظومته كما تدل الوقائع.

بعد افتراق الناس لمعسكرين نشأت مناطق آمنة جديدة لكل فريق:

عند المؤيدين للأنظمة بإمكانك نقد الشبيحة أو البلطجية، لكن لا تستطيع انتقاد النظام القمعي الذي جمعهم وسلحهم، وأطلقهم للنهش في الشعب.
بإمكانك نقد فساد المحافظ لكنك لا تنقد الرئيس الذي عينه...وهكذا.

عند الثوار، بإمكانك نقد تصرفات فصائل مسيئة، لكنك لا تستطيع التصريح بحقيقتها الخيانية، وبالحل الجذري معها وهو استئصالها لأنها سرطان يُنهِك جسم الثورة.
بإمكانك نقد الفاسدين من المحسوبين على الثورة، لكن ليس بإمكانك نقد سياسات الدول الداعمة والراعية لهم كتركيا وقطر، وغيرها.

وهكذا نجد أنفسنا نتحرك في دوائر مغلقة من المناطق الآمنة، التي مهما انقسمت، وتكاثرت، ستعود للاتحاد من جديد، لترجعنا للمنطقة الأم، الخاصة بالنظام القمعي، والتي نستطيع فيها انتقاد فساد عامل نظافة بدائرة حكومية، مقابل السكوت على فساد المدير العام، وفضح شرطي مرور مرتشي، مقابل السكوت على النظام السياسي القائم بأكمله على الفساد.

قد نُخدَع بتذكرة العودة السالمة للمنزل التي توفرها المنطقة الآمنة على المدى القصير، لكننا نتناسى أن التحرك الدائم بهذه المنطقة يهدد وجود المنزل نفسه بمن وما فيه، وتبقى الحلول الثورية الجذرية الحاسمة، في استئصال جذور الفساد سواءا كانت مؤسسات، أو أنظمة سياسية، أو أفراد، هي بر الأمان، والأرض الصلبة التي تمكننا من بناء المستقبل المنشود، خاصة إذا كان توقيت هذه الحلول في اللحظات التاريخية التي لا تتكرر إلا مرة كل جيل عبر الثورات الشعبية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق