26‏/05‏/2018

قصة الاستبداد والحرية في القرآن الكريم 1


ما السبب أن جعل الله ثلث كتابه الكريم قصصا؟

الجواب ببساطة أن القصة هي أفضل أسلوب للتعليم وإيصال ما تريده للمتلقي، فقصة شائقة، عذبة الألفاظ، سلسة المعان، تؤدى بأسلوب جذاب، تغنيك عن ساعات طوال من التلقين، وتترك أثرا في السامع أبلغ من أثر البراهين المنطقية الجافة.

الرجاء من الجميع أن يأخذوا أماكنهم, ويحبسوا أنفاسهم فالعرض السينمائي القرآني الماتع لقصة الاستبداد والحرية سيبدأ.....

إنها مصر قبل حوالي 1500 عام من ميلاد المسيح، مجتمع مكون من قوميتين هما أهل الأرض ( المصريون ) ووافدون غرباء من فلسطين يعاملون كعبيد من المصريين، وقد تطاول الدهر على أولئك الوافدين حتى استمرؤوا الذل وتطبعوا عليه، لدرجة يعدونه أمرا طبيعيا، وما سواه ( الحرية ) أمرا مستهجنا مخالفا للطبيعة!!!

رأى فرعون ( الحاكم المستبد ) رؤيا أفزعته، مفادها أن ذكرا من بني إسرائيل سيسلبه ملكه!!

أمر فرعون بقتل كل ذكور بني إسرائيل، فانطلقت المخابرات الفرعونية تقتحم بيوت بني إسرائيل لتفتش عن الأطفال الذكور، وما إن يجدوا طفلا ذكرا حتى يقوموا بكل احترافية, ومهنية بتنفيذ الأوامر الفرعونية بذبحه، ثم يخرجون من البيت وكأن شيئا لم يكن!!

لابد أن الجندي الفرعوني قد برر لنفسه جريمة قتل الطفل بأنه عبد مأمور ينفذ القوانين التي تصدرها الدولة الفرعونية، وأن ما يفعله ليس إجراما بل هو حماية للوطن، وتخيل المشهد أن جنديا يدخل بيتا لبني إسرائيل فيجد صبيا رضيعا في مهده فيسل سيفه ويذبحه دون أدنى مقاومة أو اعتراض من والدي الصبي!

فهما لا يريدان المشاكل، ويمشيان قرب الجدار، ولا يوجد في قاموسهما معاني الحرية والمقاومة والعزة والكرامة، لا ننسى أن طول الأمد تحت الاستبداد قد أورثهما وغيرهما استمراء الذل والمهانة....

" إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ "

الوضع أصبح حرجا، وبنو إسرائيل يعيشون الذل مستكينين له، وفرعون بلغ به الطغيان أن نصب نفسه إلها على مصر، لا بد من رسول من الله يجلي الغمة، ولا بد من وحي سمائي ينير الظلمة، وهنا أذن الله أن يلد المخلص موسى صلى الله عليه وسلم...

" وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ "

لكن كيف سيلد موسى ويتربى في هذه الأجواء الموبوءة والمدمرة لشخصية الإنسان؟

هو إن سلِمَ من سيوف مخابرات فرعون، فلن يسلم من انتكاس فطرته عبر التربية الإسرائيلية المذلة، التي تطمس الشخصية وتدجن الفرد لصالح السلطة المستبدة، فكيف سيخرج من أناس اعتادوا أن تقتاد بناتهم أمام أعينهم للخدمة في منازل الفراعنة وما سيتعرضن له من امتهان، وقتل لذكورهم الرضع في مهودهم أمام أعينهم، كيف لهم أن يخرجوا حرا قائدا ذي شخصية قوية، يتحدى المستبد فرعون الذي ادعى الألوهية، ويثور ضد دولته الإجرامية؟؟

من أجل ذلك قضت حكمة الله أن ينشأ موسى في قصر فرعون منبع السلطة، ومثوى الغنى والرفاه، حتى تتبلور شخصيته كقائد حر ينقذ شعبه من جحيم الاستبداد الفرعوني، لنعيم طاعة الله وعبوديته، وأيضا حتى يرى موسى فرعون بحالته البشرية الضعيفة الحقيقية بعيدا عن هالات الإعلام المأجور الذي صوره إلها، سيراه موسى بشرا يأكل الطعام، ويشرب، ويقضي حاجته، تماما كأي بشري آخر، وبالتالي ستنكسر هيبته في صدر الرسول القائد الحر موسى صلى الله عليه وسلم.

وفي خلاص ذلك الرضيع المبارك لفتة إلهية تعبيرية جميلة حيث يقول الله موحيا لوالدته " فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ " فأحيانا لا تكون السلامة إلا في قلب الخطر، ولا تدرك العافية إلا في قلب العاصفة، إذا خفتِ عليه فألقيه في اليم رسالة لكل أم تخشى على ولدها من الأذى إن سلك طريق تحرير الأمة، والجهاد في سبيل الله.

فرعون المستبد يريد مغالبة إرادة الله وذلك بقتل ذكور بني إسرائيل في بيوت أهليهم، إذن سيأتي الله بنيان فرعون وهامان وجنودهما من القواعد ليخر عليهم السقف، وسيلتقط آل فرعون مهلكهم بأيديهم ويحبونه ويتخذونه ولدا، ويربونهم كأمير فيهم " فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًاَ ".

وفعلا شبّ موسى وكَبِر، وحان موعد أدائه للخدمة العسكرية الفرعونية في جيش الطاغية، هناك حيث يساق الشباب وهم في فورة صباهم إلى معسكرات التجنيد الإجبارية في خدمة الطواغيت، حيث يعاد تدجينهم كمواطنين " شرفاء " يدينون بالولاء لحساب الطاغية فقط، وذلك لا يتم إلا بمراحل طويلة من التعذيب والإهانة وكسر الكرامة والعزة في قلوبهم، ثم يتخرجون من هذه المعسكرات وحوش بشرية تحمل في قلبها حقد لا يوصف على مجتمعاتها، وتنتظر الفرصة السانحة لتفريغ هذا الغل.

لذلك نفهم لماذا قيض الله لرسوله موسى حادثة قتل المصري ومن ثم الهروب لمدين " فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " وقد كان له ذلك، خرج من مصر مهاجرا فارا بدينه خائفا من بطش فرعون وزبانيته، ثم عاد إليها رجلا مكتمل القوة والرشد، رسولا من الله لبني إسرائيل، مؤيدا بمعجزات رب العالمين.

لكن كيف تعامل فرعون مع موسى حين عاد له بالرسالة؟

حاول أن يسقطه بنظر الرأي العام عبر:

1) تذكيره والناس أنه ربي في قصر فرعون، في رسالة تحمل معاني أنه ناكر للجميل، أو جاسوس يعمل لحساب فرعون من أجل توريط بني إسرائيل، والدليل أنه تخريج قصر فرعون.

2) إثارة سجل موسى القضائي في مرحلة ما قبل البعثة، فهو قانونيا متورط في جريمة قتل، وفار من وجه العدالة، فكيف يصبح المجرم المطلوب للدولة مصلحا اجتماعيا أو مخلصا، فضلا على أن يكون رسولا!!

وفي كل موقف يقرن القرآن الكريم في المواقف والحساب عليها بين فرعون، ووزيره هامان، وجنودهما من العبيد المأموريين أو المجندين إجباريا، فهم سواء في الطغيان، سواء في العقاب والمآل " إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ".

وحين ضاق فرعون ذرعا بقضية موسى، وعجز عن الرد عليها بالبراهين والحجج، لجأ لأسلوب الطغاة المفضل في مواجهة المصلحين ألا وهو القتل، لكن فرعون كرأس سلطة سياسية لا يجدر به أن يتصرف كزعيم عصابة، بل عليه أن يخرج جرائمه بصبغة سياسية قانونية، لذلك يطلب التفويض من الشعب لقتل موسى لأنه عميل لجهات استخباراتية خارجية، وغايته نشر الفتنة الطائفية بين أبناء الوطن الواحد " وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ "

إذن المعركة هي بين السلطة الساهرة على أمن الوطن وراحة المواطن، وبين مندسين عملاء لجهات خارجية غايتهم إثارة القلاقل الداخلية، وليست كما يصورها إعلام موسى أنها مواجهة بين حق وباطل، وخير وشر، وثورة ربانية لتعبيد العباد لرب العباد، وسلطة مستبدة كافرة تعبد العباد لعبد منحرف.

لكن ما هو موقف بني إسرائيل في كل هذه الأحداث؟

في الجزء الثاني بإذن الله......

جاد الحق




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق