18‏/06‏/2020

التنوير الكاذب والوعي الناقص

أظن أن الحالة المثالية للثقافة أن تكون غير منحازة، وللوعي أن يكون غير مجزّأ، لذلك حين أكون ببلد ما، وأظن بنفسي أنني مثقف، وعنصر فاعل في مجتمعات يُفتَرَض أنها (متنوّرة) وحضارية تتمتع بحرية فكرية، ووعي عالٍ مقارنة بعامة الشعب، وأسعى لتطوير المجتمع، ومساعدة فئاته المهمشة، فهذا الأمر يضعني أمام استحقاق كبير، وتحت مسؤولية عظمى، فالبعض من (المثقفين) يرى أنه من الوعي والتنوير، وحرية الرأي والتعبير، النقاش في أمور دينية أو فكرية ومجتمعية حساسة ومصادمة لهوية الشعوب، وبشكل هجومي يثير استفزازها، خاصة على العام في وسائل التواصل، غايته استعراض العضلات، وإيصال صورة أنه المميز الذي لا أتبع القطيع مثلكم، علمًا أن الكلام بمواضيع مماثلة يحتاج متخصصين أفنوا سنوات عمرهم يحلّلون دقائقها، ويسبرون أغوارها، بينما في الوقت نفسه لا يكاد هذا المثقف المتنوّر يتجرّأ على مناقشة أقل من هذه الأمور بكثير بما يتعلق بأخطاء سلطة الحكم ببلده، فضلاً على أن يبدي رأيه بانتقاد أو تصويب له، هذا إن لم يكن بوقًا لها، يقضي حياته بالتسبيح بحمدها ليلًا نهارًا.

ولنكون أكثر دقة دعونًا نخصص الحالة السورية:

في مناطق النظام، وانعكاسًا لحضارة الغالب وسطوته، وأثر الإعلام العالمي في جلد عقول المغلوبين، وعبر أذرع مؤسساتية دولية، وُجِدَت أساسًا لخدمة توجهات سياسية، تروّج للثقافة الغربية أنها طريق التحضر والنهضة، نجد انتشارًا كبيرًا لأفكار حرية المرأة وحقوقها من جانب أن الدين والمجتمع قد هضما حقها بموضوع الميراث والعمل والزواج المبكر..إلخ، والتي أُشبِعَت بحثًا وتفنيدًا وردًا من جانب فقهاء الشريعة ومفكريها، بينما لا يتم التطرق بتاتًا للجانب الأهم من حرية المرأة التي نسفها النظام نسفًا بمجازره المستمرة منذ تسع سنوات بحق الشعب السوري، خاصة المرأة التي كانت الضحية الأكبر، حين حرمها النظام من أبسط حقوقها وهو حق الحياة، أي حياة، وحرمها ليس فقط من أبنائها وزوجها ووالدها وإخوتها، بل حتى من معرفة مصيرهم عبر قتلهم أو تغييبهم، ومارس ضدها عنفًا جنسيًا وجسديًا ونفسيًا في معتقلاته وخارجها لم تسمع به البشرية، فأين هؤلاء المثقفون المتنورون والنشطاء المتحررون والمنظمات الحنونة من المرأة المهدورة في دولة بشار الأسد؟!

البعض يهرب من هذا الاستحقاق بنسف كل تلك الوقائع وجحدها، ولسان حاله (السماء صافية والعصافير تزقزق، والله يطفيها بنوره، ولا بتآذونا ولا منآذيكم)!!

الأمر نفسه بالنسبة إلى كل ما يتعلق بالشريعة الإسلامية، نقدٌ وهجوم وتشويه وحرب لا هوادة فيها، بينما يكون الصمت المطبق، والتجاهل التام في مناقشة قوانين مكافحة الإرهاب التي وضعتها أفرع مخابرات النظام، والقانون ٤٩، وغيرها من قوانين مخابراتية إجرامية، علمًا أنها قوانين وضعها بشر مثلنا يصيبون ويخطئون وليست وحيًا إلهيًا، ولم تستخدم إلا في الظلم، وضد مبادئ حقوق الإنسان!!

نأتي إلى موضوع الحكم والديمقراطية:

أي مناداة بأي حكم إسلامي قبل أن نعرفه ما هو، وما طرحه، ومن طرحه، وما هي  وسائله، وآلياته، فهو مرفوض ودعشنة وقعدنة، وسورية دولة متعددة الطوائف والقوميات، ولا لتسييس الدين ويسقط الإخوان و..إلخ.

أيضًا أي ديمقراطية تأتي بأي إسلامي يجب الالتفاف عليها ألف التفافة، واشتراط ألف شرط وشرط عليها، بذريعة حماية الأقليات، والمبادئ الإنسانية، والمواد الفوق دستورية، و..إلخ

أما فيما يتعلق بالقائد الخالد الذي تُفصّل له الدساتير حسب هواه، وتُعدّل له القوانين حسب مزاجه، ويحكمنا بفردانيته ٣٠ عامًا بقبضة المخابرات، وبنسب استفتاء 99.9 و97.7، ثم يورّث ابنه الحكم بعد مسرحية هزلية تم فيها له تعديل الدستور (الدائم) بخمس دقائق، والبعث القائد للدولة والمجتمع من ستين عامًا للآن، والأقلية التي لا تزيد عن 10% وخرج منها أكثر من 80% من القيادات الأمنية والعسكرية الممسكة بزمام السلطة، فهنا لا تحس لهذه المنظمات أو التجمعات أو الأفراد من المثقفين من أحد ولا تسمع لهم ركزًا.

وتطول قائمة الازدواجيات وتتشعّب، لكن خريطتها واضحة، ما تسمح بنقده السلطة نشرّحه ونتفنن به، وما لا تسمح به نغلق عنه العيون، ونصم الآذان، ونسكت الألسن، وفي النهاية ليس الجميع (أحمد بن حنبل) “وبدنا نمشي الحيط الحيط، وعنا ولاد بدنا نعيشهم”.

الوعي والتحرر والثقافة مفاهيم لا تتجزأ، فإما أن أستعملها مع الجميع، وإما أنا مجرد مزوّر ومطبّل آخر أنشر دعاية السلطة، وأدور بفلكها، وأنفذ رغباتها وما تريده سواء عرفت أم لم أعرف.

في مناطق الشمال السوري (الثورة):

الأمر نفسه في مناطق الثورة، انتقاد لتكفير (داعش والقاعدة) وجرائمهما وخَرَس عن أخطاء الفصائل المسيئة المحسوبة على الجيش الحر.

الإشادة بديمقراطية الانتخابات التركية، وخَرَس عن تعيينها لموالين لها في المناصب القيادية دون أي رقابة أو قبول شعبي.

وطبعًا من يقوم بهذه الممارسة المزدوجة للمفاهيم الثقافية والتحررية الواعية هم أشخاص يُفتَرَض أنهم (نخبة)، ومنظمات يُفتَرَض أنها تنشر الوعي، وترفع السوية الشعبية!

علينا الانتباه لفخ أن ما نظنه أحيانًا ثقافة ووعيًا وتنوّرًا هو ما سمحت به السلطة لنا، أو روجته بيننا، أو سكتت عنه بقصد فقط؛ لأنه يخدم سياستها، ويصب بمصلحتها، فلذلك لا نفرط كثيرًا بخداع أنفسنا ولعب الدور وتصديقه، خاصة من يهربون من مخاطر نقد السلطات والكلام في السياسة، إلى الكلام بثنائية الدين والجنس، فهذان الموضوعات جاذبان للناس، يضفيان هالة الثقافة على من يتكلم بهما، والأهم ليس لهما ركن شديد يحميها من تطفل المتطفلين، وجهالة الخائضين، ويشكلان مساحة مناورة جيدة للسلطة حين تريد أن تبدو تقدمية متحررة، أو محافظة ملتزمة، حسب ما تقتضيه الحاجة.

كلمة الحق ثقيلة، ومهمة من يعلم جسيمة، وأجرهما أعظم منهما، حين يكونا عن مبدأ يرفض التجزؤ، ووعي يرفض التحيز.


معتز ناصر


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق