القرآن الكريم بروعة بيانه، و متانة بنيانه، و دقة ألفاظه، و سمو معانيه، لا تقتصر إعجازاته على المستويات البلاغية و العلمية و التاريخية فقط، بل تتعداها إلى السياسية أيضا، فالقرآن قدم لنا نماذج سياسية نراها اليوم تتكرر في حياتنا لمرحلة التطابق بين التصوير القرآني و الواقع السياسي.
فمثلا بالصراعات التي تجري بين الدعوات الإصلاحية كالثورات و بين محاربي الإصلاح و أعدائه كالأنظمة الفاسدة و الانبطاحيين من الشعوب، أو للتبسيط نقول الصراعات التي تجري بين أي حق و باطل، عرض لنا القرآن عدة سيناريوهات لسير القضية منها:
1) في قصة ابني آدم، حين قربا قربانا، فتقبل من أحدهما، و لم يتقبل من الآخر، ملأ الحسد و الحقد صدر الابن المفسد، فقال لأخيه الصالح لأقتلنك، لاحظ أنه مباشرة قرر اللجوء للقتل، مع أخذ العلم أن عدد البشر في ذاك الوقت لم يتجاوز العشرة أشخاص، و أن الكرة الأرضية لازالت بكرا بخيراتها، و لو أن أحدهما مشى مسافة 1 كيلو متر لانتهت القضية، لكنها رسالة إلهية أن الكرة الأرضية على اتساعها، و بذروة خيرها، لن تتسع للحق و الباطل سوية، فإما حق و إما باطل، فما بالك لمن يريد جمع النقيضين في وطن واحد، أو تحت قبة برلمان!
2) إبراهيم عليه الصلاة و السلام، حاجج قومه بالبراهين العقلية ليهديهم سواء السبيل، فحطم أصنامهم، و ترك الفأس في رقبة صنمهم الأكبر، فكان أن وجه لمعتقداتهم و عقولهم و تراثهم صفعة أدبية قوية، فلما رأوا المشهد الذي أعده لهم إبراهيم عليه الصلاة و السلام { قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } ، أرادوا أن يحطوا من شأن إبراهيم عليه الصلاة و السلام، فرموه بهتانا بعدم النضوج، و ترفعوا عن الإشارة إليه بشكل مباشر، ثم قالوا { حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } حرّقوه و لم يقولوا احرقوه، للدلالة على المبالغة نتيجة الغيظ الذي جرعهم إياه إبراهيم عليه الصلاة و السلام، حتى فاض منهم نارا تلظى، فكانت النتيجة أن قال الله بالقرآن { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } إبراهيم وحده أمة، و جعل نارهم عليه بردا و سلاما، و أخرج من نسله المبارك محمد صلى الله عليه و سلم، فالعبرة السياسية المستفادة، أن كل صاحب دعوة إصلاحية سيلقى من سفهاء الناس التحقير و الاستنكار، و سيسعى أرباب الباطل لحرق المصلح على كافة الأصعدة، حتى يحرقوا دعوته معه.
3) أرسل لوط عليه الصلاة و السلام إلى قومه الشاذين المفسدين، بالطهر و العفاف و التوحيد، اعتبروا دعوته مسبة بحقهم، فالداعر يغيظه رؤية الملتزم، لأنه يشعره بنقصه و دونيته، كما أن العبد الذي ألف الذل و الخنوع، يقتله رؤية الحر الذي يأبى الهوان، فلذلك قرر قوم لوط أن يخرجوا لوطا و أهله من قريتهم بتهمة تثير العجب { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } ، نعم تهمتهم أنهم يتطهرون، كيف يتطهرون بيننا معشر الأنجاس القذرين!؟ إنهم هكذا يحرجوننا، فصاحب كل دعوة للخير، دائما متهم بجريمة عظمى، هي أنه يريد الخير في مجتمع عائم على بحر من الإفساد و الرذيلة.
4) فرعون، المعين الذي يرد منه كل طغاة العالم، فرعون كان يطبق سياسة فرق تسد، حيث وصفه القرآن بأنه كان يقسم المجتمع الواحد لشيع و طبقات، فيظل التناحر و الحقد بين المجتمع، و بالتالي تظل السلطة الفاسدة موجودة { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }، حين أرسل الله موسى و هارون عليهما الصلاة و السلام لفرعون، و عرضا الدعوة و المعجزات عليه، لجأ فرعون إلى حرف الموضوع عن مساره، و شخصنة القضية عبر إحراج موسى بشخصه، فذكّره كيف ربوه في قصر فرعون، و كيف أنه مطلوب جنائي للنظام الفرعوني { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ(19) }، و لم يكتفِ فرعون بذلك، بل طلب من شعبه تفويض ليقتل موسى صلى الله عليه و سلم لأنه يثير فتنة طائفية، و عميل لجهات خارجية تريد الفساد بالبلد { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ }، الطريف بالموضوع أن فرعون الجبار، يحتاج لتهيئة الرأي العام عنده قبل إصدار قرار بقتل موسى صلى الله عليه و سلم، و طبعا كانت النتيجة إغراق فرعون و جنده، و عمت العقوبة على قوم فرعون لأنهم أطاعوه، و تعميم عقوبة الله على كل شعب مطيع لفرعونه سنة كونية ثابتة، و نبهنا الله أنهم لم يطيعوه خوفا و لا رهبا، بل أطاعوه لأنهم فاسقين، { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ }.
هذا غيض من فيض عن النماذج السياسية التي نراها بحياتنا كل يوم، و قد ذكرها الله لنا في القرآن، حتى نستبين سبيل المجرمين فلا نتبعها، و ما أشد حاجتنا اليوم في هذه الثورة المباركة، لوقفة تفكر مع القرآن، و لكم يسلينا تلاوة قول الله تعالى الذي هو بإذن الله بشارة خلاصنا من فرعون الشام { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ }
اللهم هيئ لهذه الثورة و لهذا الشعب المستضعف أمرا رشدا، و اجمع كلمتنا على ما يحبك و يرضيك، و أنزل علينا النصر و الفرج.
جاد الحق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق