لا شكَّ عزيزي القارئ حين تمرُّ بك كلمة القطيع أول ما يتبادر إلى ذهنك صورة مجموعة من الأغنام يسوقها من الخلف راعٍ بعصاه، أو يتقدمها من الأمام بحماره وهي تتبعه.
الصورة الذهنية التي وردتك صحيحة تماماً، لكني سأسألك سؤالاً بسيطاً، لِمَ لا نستبدل الأغنام بالبشر؟!
قد تستهجن الصورة الجديدة وتأنف منها، رغم واقعيتها الشديدة، وتأكيد علماء النفس لها بما يسمونه ” سلوك القطيع ” أو ” سياسة القطيع “.
تجربة طريفة قامت بها قناة ناشيونال جغرافيك:
أحضروا فتاة (ضحية)، وزعموا أنَّها ربحت كشفا طبيا مجانيا، وضعوها في عيادة، ومعها عدد من الأشخاص المتفق معهم من طرف القناة، بعد قليل من جلوس الفتاة دوت صفارة، فنهض جميع الجالسين من مقاعدهم وقوفا، ثم جلسوا، استغربت الفتاة الأمر ولم تفهمه، وتكرر الأمر مرة ثانية، والفتاة تزيد حيرتها وإحراجها لأنَّها الوحيدة المختلفة عن الباقين فلا تقوم معهم، إلى أن دوت الصفارة للمرة الثالثة، حينها الفتاة نهضت مع الحاضرين وجلست معهم دون أن تفهم المغزى أو حتى تسأل…..
قرر مشرفو التجربة رفع مستوى التجربة، فقاموا بإخراج جميع المتفقين معهم بشكل لا يلفت نظر الفتاة وتركوها وحيدة، وحين بقيت وحيدة ودوت الصفارة نهضت الفتاة من مكانها واقفة ثم جلست……
أدخل مشرفو التجربة شخصاً جديداً (ضحية جديدة)، ودوت الصفارة فوقفت الفتاة ثم جلست، سألها عن سبب فعل ذلك ردَّت عليه أنَّها لا تعرف، لكنَّها رأت من سبقها يقوم بذلك فصارت تقوم به، وحين دوت الصفارة مرة ثانية وقفت الفتاة والشاب معا….
وبدأ عدد المنتظرين في القاعة يزيد حتى بلغ ثمانية أشخاص، وكلما كانت تدوي الصفارة يقفون ويجلسون دون أن يدروا لِمَ يفعلون ذلك.
سلوك الفتاة ومن تلاها من أشخاص هو التجسيد الواقعي لسياسة القطيع، وهو أن يقوم الفرد بمحاكاة سلوك وفكر البيئة المحيطة على شكل تقليد أعمى دون تفكير.
هذه المحاكاة تشعر الفرد بالأمان، إذ تسمح له بالانخراط أكثر مع الجماعة، وتريحه من عناء التفكير والتساؤل، وإحراج مواجهة المجتمع ومعاكسته، ممَّا يزيد بالتالي خطر العزل الاجتماعي للفرد ومقاطعة المجتمع له.
هذا النوع من سلوك القطيع قصَّه الله علينا في القرآن حين أخبرنا أنَّ كثيرا من المشركين يعبدون الأصنام ليس لقناعتهم بعبادتها، بل فقط لأنَّهم وجدوا من سبقهم يعبدونها، فعبدوها هم من باب التقليد الأعمى لضلال من سبقهم يقول الله تعالى: ” وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ “.
انتشار الإنترنت، وظهور وسائل الاتصال سهَّل انتشار ” ثقافة القطيع “، فكثير منَّا يرسل الرسائل التي فيها عبارات مثل ” أرسلها إلى عشرة غيرك وسترى النبي في منامك، هناك شخص وصلته ولم يرسلها فأصيب بالفالج ” دون أن يفكر بها، أو يبحث عبر النت عن صحة مضمونها، أو الحكم الشرعي لتداول هكذا رسائل، أو الغاية الدعائية والدوافع النفسية لها، مع أنَّنا بعصر لا نبعد فيه عن المعلومة إلا بضع نقرات.
مثلا لو جربنا إطلاق وسم (هاشتاغ) معين من شخصية اجتماعية مُسلّط عليها الضوء، أو وسيلة إعلامية مشهورة، سنجد جميع ” القطيع ” يتناقل هذا الوسم ويتكلم به ويحلله ويناقشه، وبالتالي استطعنا أن نفرض على القطيع وبكامل إرادتهم الفكرة التي تريد، عبر تسويقنا لها بشكل غير مباشر باعتماد أسلوب القطيع معهم.
البلدان العربية والإسلامية هي بلدان ” القطيع ” بامتياز، فقد عملت الحكومات الديكتاتورية المتسلطة على رقاب هذه الشعوب على تكريس هذه الثقافة؛ لأنَّها تضمن لها استمرار سيطرتها على الشعب، وبالتالي استمرار فسادها وطغيانها.
والحكومات تدرك أنَّ للقطيع أدوات يساق بها، كالإعلام، والرموز الاجتماعية من مطربين ومغنيين وممثلين وممثلات وراقصين وراقصات، بل حتى مشايخ ورجال دين وهذا هو الأخطر، وهناك أيضا المناهج والأنماط الدراسية التي تُلقّن للطلاب منذ نعومة أظفارهم وتساهم بتدجين المجتمع وتكريس ثقافة ” القطيع ” فيه.
وإن فكّر مواطن ما على أن يكون إنسانا ويرقى بنفسه عن القطيع، ويتمرد عليه، يفاجأ بكلب القطيع أو عصا الراعي (المخابرات)، لتعيده صاغراً ذليلاً إلى القطيع، وتنكّل فيه أمام القطيع ليصير عبرة لمن تسوّل له نفسه الخروج عنه، طبعاً هذا إن لم يسبق إليه بطش أبناء قطيعه، لأنَّه بنظرهم إمَّا خائن للجماعة، أو متمرد يشعرهم بدونيتهم وعبوديتهم، أو حتى نفاقاً منهم للراعي.
ثقافة القطيع مرض اجتماعي، وانحراف نفسي حذَّر منه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لِما له من أثر سلبي هدَّام على المجتمع، من خلال تكوينه لعقلية جمعية جامدة تؤخر المجتمع عن ركب الحضارة، وتنحط به من مستوى الإنسانية لمستوى البهائمية، ولا يليق بمجتمع مسلم أن يكون مجتمعَ قطعان بهائمي، فقد قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم محذِّرا من مغبة منافقة المجتمع وتقليده تقليدا أعمى: ” لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً ، تَقُولُونَ : إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا ، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا ، وَإِنْ أَسَاؤوا فَلَا تَظْلِمُوا “.
جاد الحق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق